نسيج الحياة واسرار الكون
الزيارات:

Mahmoud | 4:41:00 AM |

إن الرجل الذي قال إن الأرض تحيا يعيش في بيئة رعوية في ريف إنجلترا. ثمة
طاحونة قديمة بجوارها كوخ مسقوف بألواح الأردواز داخل زقاق ريفي صغير في
قلب مقاطعة ديفون، وفيه يعيش جيمس لافلوك مع زوجته الثانية وأصغر أبنائه،
المصاب بإعاقة معتدلة. من حولهم يمتد ٣٠ فدانًا تكسوها الأشجار. إنها الأرضفي
أقصىصورها الطبيعية.
حين كان لافلوك صغيرًا كان الريف مكانًا مقدسًا. لقد نشأ في أسرة فقيرة
عاملة في جنوب لندن، وقضى والده ستة أشهر في السجن في شبابه لسرقته أرنبًا
لتحسين نظامه الغذائي الفقير. كانت أمه من أوائل المناصرين لحقوق المرأة. وقام
على تربيته جده وجدته. في المدرسة كان طالبًا شارد الذهن يعاني صعوبة القراءة
ويهتم بالمزاح أكثر من الواجب المنزلي، وكان ينغمس لأيام متواصلة في العوالم
الخيالية للكاتبَيْن جول فيرن وهربرت جورج ويلز، لكن حين اصطحبه والده في
نزهات ريفية طويلة للهروب من سخام لندن ودخانها، بدلت هذه التجربة حاله؛
لأول مرة. « جايا » حينئذٍ قال إنه رأى وجه ربة الأرض
كان لافلوك واحدًا ممن بدءوا الحركة البيئية، وهو يعمل على طاولة المطبخ في
منزله عام ١٩٥٧ اخترع جهازًا صغيرًا يمكنه أن يقيس التركيزات الدقيقة للمواد
الكيميائية والمواد الملوثة في الهواء. وبعد مرور خمسة أعوام حذَّرت العالمة راشيل
كارسون من الاستخدام الضار للمبيدات في كتابها الأول من نوعه الذي حمل عنوان
وسرعان ما اسْتُخْدِم جهاز لافلوك في توثيق ادعاءات كارسون ،« الربيع الصامت »
بالبيانات الرقمية وإيضاح كيف يمكن مثلًا لأحد المصانع في اليابان أن يؤثر على
جودة الهواء في أوروبا.






طرأت فكرة الربة جايا في ذهن لافلوك في أعقاب أزمة نفسية عاناها في منتصف
عمره. كان في منتصف الأربعينيات يؤدي وظيفة راتبها يسدد له الفواتير، لكنها
تشعره بالملل. كان له أربعة أبناء، يعاني أحدهم عيبًا خلقيٍّا، وأم خَرِفة طاعنة في
السن. كان يدخن ويشرب الكحوليات ولم يكن سعيدًا؛ لذا حين تلقى دعوة مفاجئة
إلى مختبر الدفع النفَّاث في كاليفورنيا للعمل على مجسات كوكبية، قَبِل الدعوة
بشغف.
كان العلماء في مختبر الدفع النفَّاث يصممون آلات من أجل مهام السفينتين
المقرر هبوطهما على كوكب المريخ والتحقق من وجود حياة عليه. كانت « فايكنج »
خطتهم هي حفر التربة والتحقق من احتوائها على بكتيريا، لكن ثمة فكرة راودت
لافلوك، وهي: لِمَ لا يتم اختبار الغلاف الجوي بدلًا من ذلك؟ إن كانت هناك حياة،
فستستخدم المواد الخام في الغلاف الجوي وتفرز مخلفاتها فيه مجددًا، كما هو
الحال مع الحياة على سطح الأرض، ومن السهل التحقق من انعدام التوازن الناتج
عن الحياة. إن وجهة النظر المختلفة هذه جعلته يفكر في الكوكب الذي يعيش عليه
بطريقة جديدة، فحين يُنظر إلى سطح الأرضمن بعيد يبدو مزخرفًا بالحياة، لكن
الحياة تحقق توازنًا مع الغلاف الجوي. كانت رؤيته تتمثل في طرح أسئلة عن
الغلاف الجوي لم يسبق لأحد أن طرحها.
نحن جميعًا نستنشق من الغلاف الجوي أول نفس لنا يبقينا على الحياة، ثم
نعتبره أمرًا مسلمًا به بقية حياتنا. نحن نثق في أنه لن يتغير قدر ثقتنا في شروق
الشمس وغروبها. إنه نافذة مثالية من الزجاج الملون نطل منها على العالم، لكنه
أيضًا مزيج من الغازات غير المألوفة القابلة للاشتعال. إن الفكرة التي استنار بها
ذهن لافلوك عام ١٩٦٥ هي أن الهواء الذي نتنفسه يحتفظ بنفس تركيبته، ومن
ثم لا بد من وجود شيء ما يعمل على تنظيمه؛ وذلك الشيء هو الحياة.



1) الأرضغير المستقرة )
1-1 ) كوكب يعجُّ بالنشاط )
افترض أن حضارة غريبة من خارج الأرض تقوم بدوريات في منطقتنا في المجرة،
مستعينة بمجسات حساسة مصمَّمة للتحقق من الحياة بأشكالها المتنوعة. ثمة آلاف من

نسيج الحياة
الحراس الآليين البالغي الصغر الذين يهيمون في المجموعة الشمسية ليهبطوا على كل
هدف مقبول ظاهريٍّا ثم يرسلوا تحليلهم مرة أخرى بسرعة الضوء. تخيل أن هناك مائة
مجسٍّ بالضبط مستقرين في مواضع عشوائية على الأرضكمطر معدني خفيف، ما الذي
سيعثرون عليه؟
حوالي ٧٠ منها ستهبط على المحيطات. قد تجد آلاتهم مليار خلية في كل لتر
نموذجي من المياه المالحة يضم أكثر من ٢٠ ألف نوع من البكتيريا، وقد تحمل ملعقة
المياه المالحة الصغيرة من الحمضالنووي ما يزيد عن مجموع الجينوم البشري بأسره،
وسيهبط تسعة منها تقريبًا على الأراضي العشبية وتأخذ عينات من مئات الأنواع من
النبات والحيوان، وسبعة منها ستهبط في الصحاري التي تضم عددًا قليلًا من الحيوانات،
لكنها تحوي عددًا هائلًا من النباتات ومئات الأنواع من البكتيريا. وقد يُدعى الحراس
٪ الستة الذين هبطوا في الغابة الاستوائية إلى وجبة من التنوع الحيوي: إذ سيرون ٥٠
من الأنواع الموجودة بالكوكب ومئات الأنواع المختلفة من الحيوانات والنباتات، وسيهبط
أربعة منها في غطاء التندرا القطبي الذي يحوي عددًا قليلًا من الحيوانات لكنه يضم
العديد من النباتات والأشنة والطحالب والبكتيريا، وسيهبط حوالي ثلاثة على الجليد أو في
مناطق كساها الجليد، وحتى هناك قد يكشف المشهد المتجمد عن آثار لظواهر وعمليات
بيولوجية؛ فالبكتيريا تكون نشطة في جليد القطب الجنوبي عند درجة حرارة − ٢٠
مئوية (− ٤ فهرنهايت).
قد تنجح المجسات في مهمتها سواء أتمكَّنتْ من رؤيتنا أم لا. في زمان شكسبير،
كانت لندن المدينة الوحيدة التي تضم مليون نسمة؛ في حين يزيد عدد هذه المدن الآن
عن ٤٠٠ مدينة، ونصف سكان العالم يعيشون في مناطق حضرية، ويشغل كل كيلومتر
مربع منها أكثر من ٤٠ شخصًا، لكنهم يشغلون أقل من نسبة ٥٪ من مساحة اليابسة؛
لذا قد يستطيع مجسٌّ واحد من بين ١٠٠ مجس في المتوسط أن يرى أثرًا واضحًا لحياة
ذكية. لا مشكلة في ذلك؛ فالمجسات الأخرى البالغ عددها ٩٩ مجسٍّا قد تتحقق من وجود
مخلوقات كبيرة وصغيرة ومجهرية؛ لأن الحياة تحكم قبضتها على الكوكب كالحمى. 1
يدعم التاريخ المبكر للأرض فكرة استمرارية الحياة ودوامها. لقد محا النشاط
البركاني وتكتونيات الصفائح معظم الأدلة المتبقية من أول ٧٠٠ مليون عام بعد تشكُّل
الأرض؛ الفترة التي يطلق عليها دهر الهاديان، فالسخونة والضغط يغيِّران من طبيعة
الصخور، وأيضًا يمحوان الدليل الدقيق على الحياة الميكروبية؛ لذا لم تخلِّف هذه المرحلة

نهاية كل شيء
المبكرة من الأدلة سوى القليل للغاية. إن أمسكت بصخرة، بصرف النظر عن مكانك على
الأرض، فالأغلب أن يبلغ عمرها على أكثر تقدير مائة أو مائتي مليون عام. يذهب علماء
الجيولوجيا إلى أماكن قليلة خاصة للبحث عن صخور بدائية ثم يبحثون عن الحياة
القديمة داخلها.
تأتي أقدم عينات صخرية لا جدال بشأن عمرها من تكوين بركاني بالقرب من نهر
أكاستا في الأقاليم الشمالية الغربية بكندا، حيث يبلغ عمر النتوء الصخري ٤ مليارات
عام، وعُثر حديثًا على صخور يصل عمرها إلى ٤٫٣ مليارات عام في منطقة قريبة بشمال
كندا. وتأتي أقدم صخور تحمل دليلًا لا جدال بشأنه على الحياة من غربي أستراليا:
حفريات الميكروبات التي تبلغ من العمر ٣٫٣٥ مليارات عام، ومستعمرات « جحور » من
لحفريات الميكروبات يطلق عليها اسم الرقائق الكلسية الطحلبية ويبلغ عمرها ٣٫٥
مليارات عام.
قبل ذلك يكتنف الأمر الغموض، وذلك بسبب صعوبة تفسير الأدلة المادية المحدودة.
كان من المعتقد أن دهر الهاديان يطابق الرؤية المسيحية للجحيم كمكان للنار وأحجار
الكبريت الحارق، وكان من المعتقد أيضًا أن الماء ظهر بالأساس في نهاية حقبة القصف
من قِبل الكويكبات والنيازك، وأن الحياة لم يكن بالإمكان أن تبدأ قبل انتهاء هذه
الفوضى؛ أي منذ حوالي ٣٫٨ مليارات عام، لكن الأبحاث التي أجُريت حديثًا تشير إلى أن
الأرض في المليار الأول لها كانت أشبه بالعالم السفلي في الأساطير الإغريقية: مكان بارد
ضبابي كئيب. إليك ما نعتقد أننا نعلمه:
تشكَّلت الأرض منذ ٤٫٥٥ مليارات عام، وكان النشاط المبكر شديدًا؛ ففي غضون
٣٠ مليون عام — أي نسبة ٠٫٥ ٪ من حياة كوكبنا الناشئ — جرى تجميع كوكب الأرض
بالكامل مثلما تتجمَّع حبيبات التراب لتشكل صخورًا صغيرة، ثم صخورًا بحجم الجبال،
ثم تجمَّعت تلك الأجزاء الكبيرة بفعل الجاذبية في كوكب ضخم مصهور بالحرارة، ثم
تمايزت الصخور إلى طبقات لتشكل الوشاح، ثم ارتطم جسم يماثل المريخ في حجمه
بالكوكب الوليد لتنفصل عنه كتلة شكلت القمر. رائع!
حصلنا على رؤى مذهلة من أقدم المواد التي عُثر عليها على الأرض، ليس الصخور
بل بلورات الزركون شديدة الصغر الآتية من غربي أستراليا. تبلغ أقدم عينة قرابة
٤٫٤ مليارات عام، والكثير منها يزيد في عمره عن ٤٫٢ مليارات عام. وتشير المعادن
الموجودة داخل البلورات إلى عالم رطب ذي قشرة صلبة تحدث فيه عمليات إعادة تجميع

نسيج الحياة
للصخور. 2 ولأن الشمس كانت أكثر إعتامًا آنذاك بنسبة ٣٠ ٪ فالأرض كانت باردة،
وربما كانت أجزاء منها مغطاة بالجليد. في ضوء هذه الصورة الجديدة، من المقنع أن
تكون الحياة بدأت في غضون مائة مليون عام فحسب من التشكُّل؛ أي قبل مليار عام
من عمر أول دليل متاح لنا.
لم تكن الرحلة سلسة بعد ذلك؛ فعبر النصف مليار عام التالي قابَل الكوكب مجموعة
من الاصطدامات، وكانت الكواكب الخارجية تتخذ مواضعها الحالية مرسلة موجة من
الكويكبات في مدارات متقاطعة مع الأرض. تشير العمليات الحسابية التي أجراها العالم
الجيوفيزيائي نورم سليب بجامعة ستانفورد إلى أننا تعرضنا لاصطدام أكثر من عشرة
أجرام، يبلغ قطر الواحد منها ١٥٠ كيلومترًا. بلغ قطر ثلاثة أو أربعة أجرام قرابة ٣٠٠
كيلومتر، وكانت الارتطامات عنيفة لدرجة تكفي للتسبب في غليان معظم المحيطات.
بعد كل واحد من هذه الارتطامات الهائلة كان الغلاف الجوي يمتلئ بالضباب والأبخرة
المتصاعدة من الصخور، وكانت عودة المحيطات إلى مستوياتها العادية تستغرق آلاف
،« الماحي للحياة » 1). لا يتفق علماء الجيولوجيا على حجم الاصطدام - الأعوام (الشكل 5
لكن حتى في أعمق أجزاء المحيط أو داخل القشرة الأرضية لم تكن الحياة لتبقى في وجه
الدمار الذي جلبته الاصطدامات الأكبر حجمًا.
ما دامت الأرض تمتعت طيلة ٩٥ ٪ على الأقل من تاريخها بغلاف حيوي ينتشر
في كل حدب وصوب، فيبدو إذن أن الحياة البيولوجية هي حالة طبيعية للكوكب. وهذا
يقودنا إلى سؤال مهم: كيف بدأت الحياة؟
2-1 )شيء نشأ من نذر يسير )
تبدو آليات العمل الداخلية لأبسط الخلايا معقدة وعميقة للغاية؛ لذا لا عجب أن الأشخاص
الذين لم يحظوا بتدريب في مجال علم الأحياء يركنون بسعادة إلى مدارس التصميم
الذكي والمدارس الخلقوية. لم ينشأ المحيط الحيوي من العدم، بل خُلق من نذر يسير
من أشكال بسيطة للمادة الجامدة. والسؤال: كيف بدأت الحياة؟ يستدعي أولًا طرح
السؤال: ما الحياة؟ ثم سؤالًا أعمق يكمن وراءه هو: لِمَ الحياة؟
آمن الناسطيلة ما يزيد عن ٢٠٠٠ عام بأن الحياة نشأت تلقائيٍّا وبصورة روتينية
من مادة جامدة. اعتقد أرسطو أنها حقيقة بديهية أن تنشأ اليرقات من اللحم الفاسد،
والفئران من القش، والطيور من الأشجار، والقمل من العرق، والتماسيح من الأخشاب المتعفنة.




كذَّبت التجارب البسيطة التي أجُريت في منتصف القرن السابع عشر وجهة
النظر تلك، وفي النهاية جرى تفنيدها حين قدَّم باستير الدليل على النظرية الجرثومية

نسيج الحياة
وفكرة أن الكائنات الحية تنمو من كائنات حية أخرى. وفي منتصف القرن التاسع
عشر فسَّر باستير عمليتَي توالد وتطور الكائنات الدقيقة، وفسَّر داروين عمليتَي التوالد
والتطور المماثلتين لدى الكائنات الحية، لكن لا تزال هناك حاجة إلى التساؤل عن كيفية
تحول المادة الجامدة إلى حياة في المقام الأول. 3
تُنسب الأبحاث المتعلقة بأصل الحياة للعلم التاريخي لا للعلم التجريبي. ثمة آثار
مباشرة قليلة خلَّفها أول مليار عام من تطور الأرض، ومن الصعب الوصول إلى علامات
بيولوجية دقيقة من صخور خضعت بالفعل للتشويه الكامل. ومن المدهش أن يكون
لدينا نظريات قابلة للاختبار من الأساس في ضوء الأحداث المذهلة التي حوَّلت المعدن إلى
عضلات، والطين إلى قناع تمويهي، والبكتيريا إلى تغريد للعصافير، والجزيئات البسيطة
إلى السلم الحلزوني المرتفع للحمض النووي.
لكن في خطاب أرسله إلى زميل له ،« أصل الأنواع » تحاشى داروين القضية في كتابه
في بِركة صغيرة دافئة تحوي كل أنواع الأمونيا » عام ١٨٧١ اقترح أن الحياة ربما بدأت
وأملاح الفوسفوريك والضوء والحرارة والكهرباء وغيرها، وهكذا تشكَّل مركب بروتيني
وفي عشرينيات القرن العشرين .« كيميائي جاهز للخضوع لتغييرات أخرى أكثر تعقيدًا
طوَّر كل من عالم الكيمياء الحيوية الروسي ألكسندر أوبارين وعالم الأحياء التطورية
وهي تذهب إلى أنه يمكن لجزيئات ،« الحساء البدائي » البريطاني جون هالدين فكرة
عضوية صغيرة أن تصير أكثر تعقيدًا في المحيطات البدائية دون توفر الأكسجين، لكن
بمساعدة ضوء الشمس. اختبر الكيميائي الأمريكي هارولد يوري وتلميذه ستانلي ميلر
الحياة » فرضية أوبارين وهالدين عام ١٩٥٢ بواسطة التجربة التقليدية التي حملت اسم
وفيها تفاعلت المكونات الكيميائية وظروف الطاقة المميزة لأول مليار عام ،« في زجاجة
من عمر الأرضفي قارورة مغلقة. لم تنتج أي حياة، لكن نتج الكثير من الوحدات البنائية
الأساسية. وفي تطور حديث ممتع أعيد تحليل واحدة من تجاربهما التي لم تُنشر، ووُجد
أن القارورة التي جرى فيها تصميم الظروف بحيث تحاكي انفجارًا بركانيٍّا قد احتوت
على نحو مفاجئ على ٢٢ حمضًا أمينيٍّا.
متى بدأت الحياة؟ ربما بدأت الحياة على سطح الأرضمنذ وقت بعيد يصل إلى ٤٫٢
أو حتى ٤٫٤ مليارات عام، لكنها كانت تختفي على الفور بسبب الارتطامات. ربما وقعت
للظواهر والعمليات البيولوجية عدة مرات. تُظهر الصخور الواردة « الارتطامات المثبطة »
من التكوين الصخري إيسوا في جرينلاند معدلَ امتصاصللكربون المشع يشير إلى وجود

نهاية كل شيء
آلية أيضكانت قيد العمل منذ ٣٫٨٥ مليارات عام؛ أي بعد نهاية حقبة القصف الشديد
مباشرة. ليس هذا الدليل حاسمًا. ومستعمرات البكتيريا المرصودة في سجل الحفريات
لم تظهر إلا بعد مرور ٣٠٠ مليون عام على ذلك الوقت. كان بمقدور الحياة التي
نشأت بالقرب من الشقوق البركانية في أعماق المحيطات أن تنجو من الارتطامات، لكن
ثمة مشكلة في الاستمرارية؛ إذ إن الشقوق الحرارية المائية ليست بيئات مستقرة طويلة
الأجل؛ فهي تظهر وتختفي، وليس بوسع الحياة أن تنتقل بسهولة من واحدة لأخرى. 4
قد لا يمثل الوقت مشكلةً؛ لأن الانتقال من الحساء البدائي إلى الكائنات البسيطة كان
يمكن أن يحدث بصورة سريعة. أشارت دراسة أجراها كلٌّ من عالم الأحياء المكسيكي
أنطونيو لازكانو وستانلي ميلر إلى أن النظم المتناسخة ذاتيٍّا القادرة على التطور الدارويني
يمكن أن تنشأ في أقل من مليون عام، 5 وربما تطورت البكتيريا الزرقاء البدائية بمعدل
تضاعف جيني يبلغ واحدًا لكل ألف عام. يعني ذلك أن الانتقال من الحساء البدائي إلى
الجراثيم قد يستغرق أقل من ١٠ ملايين عام.
ما من نظرية واحدة مقبولة تفسر كيف بدأت الحياة. انتهجت بعض المجموعات
منهجًا تنازليٍّا على سبيل — « معهد أبحاث الجينوم » — كتلك التي يقودها كريج فينتر في
التجربة؛ إذ تجري هندسة الخلايا بدائية النوى لتحوي عددًا أقل وأقل من الجينات،
حتى الوصول إلى الحد الأدنى من متطلبات الحياة. 6 تستخدم مجموعات أخرى — كتلك
التي يقودها جاك زوستاك بجامعة هارفارد — منهجًا تصاعديٍّا؛ بحيث تحاول تركيب
خلايا بدائية من مكونات أبسط.
في الانتقال من انعدام الحياة إلى الحياة، يبدو أن أصعب خطوة هي تحويل الوحدات
البنائية العضوية البسيطة إلى مركبات كيميائية (بوليمرات) ثم إلى بنى معقدة تتفاعل
على نحو متسق كي تشكل خلية بدائية. كمثال على المشكلات التي قوبلت في هذا البحث،
يعد الماء مادة مذيبة مفيدة؛ إذ يعمل على إذابة ونقل المواد الكيميائية التي تنفذ العديد
من الوظائف البيولوجية. لكن الماء يعمل أيضًا على تفتيت البوليمرات بدلًا من بنائها،
وهو ما يعيق تكوين البنى الأعقد. وثمة مسألة أخرى دائمة وهي أن الخلايا الحديثة
تتطلب العمل التعاوني للبروتينات والأحماض النووية، ولا يمكنها أن تعمل دون أي
منهما. كيف نعلم إذن أيٍّا منهما جاء أولًا؟
يعتقد الكثير من علماء الأحياء أن جزيء الحمض الريبي النووي (الرنا) المرن
والناقل للمعلومات سبق الحمضالنووي (الدنا) في الوجود. نتيجة لذلك أجري بحث على

نسيج الحياة
المقصود به الوقت الافتراضي ؛« عالم الحمضالريبي النووي » ما يُطلق عليه اسم فرضية
السابق على تكوُّن الخلايا الأولى حين عملت الخيوط القصيرة للحمضالريبي النووي (أو
حتى لحمضذي صلة أكثر بدائية) على تحفيز عملية تناسخها، فالنمو يمكن أن يحدث
في الطمي أو أسطح معدن البيريت أو ضمن كريات ميكروية دهنية تتشكل تلقائيٍّا.
أظهرت الأبحاث أن الانتخاب الدارويني يعمل في البنى ذاتية التحفيز؛ بهدف التفوق على
الجزيئات الأقل فائدة. فكِّر فيها وكأنها آلات مصنوعة من مكعبات الليجو وقادرة على
أن تضيف إلى نفسها، ثم تتنافس الآلات الناتجة في حلبة واحدة ولا يظل منها على قيد
الحياة سوى أكثرها كفاءة أو قوة.
أم « خيالية » الوقت وحده هو ما سيخبرنا هل قصة عالم الحمض الريبي النووي
أنها سيناريو مقنع عن الكيفية التي بدأت بها الحياة؟ في تلك الأثناء ثمة أفكار أخرى
للعالم جونتر فاخترشاوسر تذهب « عالم الحديد والكبريت » جديدة مطروحة؛ ففرضية
إلى أن الأيض يسبق الوراثة في الوجود. الفكرة الأساسية في نموذجه هي أن التعقيد
الكيميائي الحيوي لا يتزايد في المحيطات المفتوحة، وإنما في الشقوق الحرارية المائية. هل
تريد أن تعرف وصفة للحياة؟ اغْلِ الماء، قلِّب فيه كبريتيد الحديد، أضف غاز أول أكسيد
الكربون وكبريتيد الهيدروجين، وانتظر حتى تتكون البروتينات والأحماضالأمينية.
حظي نموذجه حديثًا بقوة دافعة مصدرها الباحثون الذين يرون أن الخلايا الأولى
لم تكن حية، وإنما كانت خلايا غير عضوية مكونة من كبريتيد الحديد الذي تشكَّل
في الظلام الدامس لقاع المحيطات، فالتجويفات الصغيرة قرب الشقوق الحرارية المائية
يمكن أن تعمل كحاويات للتفاعلات الكيميائية، بحيث تركز المكونات لكن مع تدفق
ثابت للسائل الحراري المائي من خلالها. بالإضافة إلى ذلك توصَّل كلٌّ من روبرت هازين،
عالم الجيولوجيا بمؤسسة كارنيجي، وديفيد ديمر، الكيميائي بجامعة كاليفورنيا بسانتا
كروز، إلى أنه عند تعريض محلول البيروفات المائي لظروف مماثلة لتلك بالقرب من
أحد الشقوق الحرارية المائية يمكن لحويصلات مشابهة للخلايا أن تتشكل تلقائيٍّا
2). والبيروفات مركَّب مهم في الكيمياء الحيوية؛ إذ يوجد عند تقاطع شبكة - (الشكل 5
آخر أسلافنا » من المسارات الأيضية. ربما كانت الكائنات المتصاعدة من الفتحات البركانية
وهذا الغشاء مكَّن هذه الخلايا البدائية من أن تترك كهوفها. ،« المشتركين

نهاية كل شيء
 الحياة على الحافة
تخيل أنك تقفز في حمام سباحة بارد لطيف في أحد أيام الصيف الدافئة، بعد ذلك تخيل
أن هذا الحمام ممتلئ بماء يقترب من درجة الغليان أو يزيد بالكاد على درجة التجميد.
الآن تخيل أن الحمام كان ممتلئًا بالخل أو غاز الأمونيا المخصص للاستخدام المنزلي أو
أحد منظفات مصارف المياه أو حمضالبطارية. في كل الحالات عدا الحالة الأولى ستكون
في مأزق في غضون ثوانٍ، وستلقى حتفك بعد وقت قصير. لكن هناك كائنات دقيقة لا
يمكنها فحسب أن تتحمل كل ظرف من هذه الظروف، وإنما يمكنها أيضًا أن تنمو
،« كائنات البيئات القاسية » بازدهار فيها. يُطلق على هذه الكائنات متناهية الصغر اسم
وقد تحدت هذه الكائنات افتراضاتنا بشأن الظروف التي يمكن للكائنات الحية أن تعيش
فيها على سطح هذا الكوكب.
يتسم كريس ماكاي بأنه شخص ودود واجتماعي، لكنه كل عام يغامر إلى أقصى
درجة ممكنة بعيدًا عن أي بشر من أجل البحث عن الحياة في أبعد الأماكن المحتمل
وجود حياة فيها، وملاذه المفضل كل من سيبيريا وصحراء أتاكاما في شيلي والأودية
المرتفعة في القطب الجنوبي. هذا العالِم القوي البنية المتخصص في علم الأحياء الفلكي
يبحث بعناد عن الحياة في الأماكن الباردة والقاحلة؛ لأنه يريد أن يجد صورًا مناظِرةً
للمريخ على الأرض، فهو يريد أن يعرف ما تخبرنا به حدود الحياة على الأرضعن أفضل
استراتيجيات العثور على أشكال الحياة على الكوكب الأحمر.
ينطلق الفريق الذي يعمل مع ماكاي سنويٍّا إلى مدينة أنتوفاجاستا الساحلية شمال
شيلي ويقودون سيارتهم لساعات عدة وصولًا إلى سهل مرتفع يحظى بحماية مزدوجة
من المطر؛ إذ تحميه الجبال الساحلية الواقعة غربًا والقمم البركانية لجبال الأنديز شرقًا.
وبعد مرورهم بقرية يانجاي المهجورة يبدو المشهد قاحلًا تمامًا، وأشعة الشمس تلفح
الصخور الخشنة والأهوار الجافة. ثمة أماكن لم يُسجَّل بها أي سقوط للأمطار قط، ومع
ذلك، لو نظرت عن كثب فستجد حياة؛ بقعًا من الأشنة ومناطق متفرقة تكسوها نباتات
الصحراء، بل توجد حتى حشرات صغيرة تعدو مسرعة في الرمال. لكن بالمثابرة الكبيرة،
في أكثر أجزاء صحراء » : توصل ماكاي إلى عدة أماكن قاحلة بحق. وعن هذا يعلق قائلًا
هناك بدلًا من أن تهبط على كوكب « فايكنج » أتاكاما جفافًا وجدنا أنه لو هبطت مركبة
المريخ وأجرت التجارب نفسها بالضبط لكان البحث قد توقف

0 التعليقات:

Post a Comment

شاهد ايضا