ما وراء الانتخاب الطبيعي
الزيارات:

Mahmoud | 4:33:00 AM |

توقفت مخلوقات السكويبون عن حديثها، وراقبت بتأمل من بين قمم الأشجار عددًا
من قوارض الشاجرات تمر أسفلها، وهي تتشمم الأرض بأنوفها. كانت القوارض
الضخمة أعداءً شرسة ذات عضات سامة، لكن لا قِبل لها بجماعة مسلحة جيدًا
من السكويبون. كان الهواء يمتلئ بأصوات عالية تصدرها الخنافس الطنانة التي
تطوف بحثًا عن الطعام. مر توراتون بحافة الغابة باحثًا عن ثمار جديدة يأكلها،
وكان وقع أقدامه يهز الأشجار ورأسه مرئي من فوق كل الأشجار عدا تلك الأعلى
قممًا.
أهلًا بك في أرضالمستقبل بعد ٢٠٠ مليون عام، حين تتسبب التقلبات المناخية
والتطور في وجود فيالق من فائزين وخاسرين جدد. يخرج علينا الجيولوجي
البريطاني دوجال ديكسون بهذه الصورة الخيالية لنظام عالمي لا وجود فيه للبشر.
أما أرقى الكائنات تطورًا فهو هجين من الحبار الذي عاد إلى الأرضوإحدى سلالات
القردة الصغيرة.
بالإضافة إلى الخنافس الطائرة التي تماثل قبضة اليد في حجمها والزواحف
قناديل ؛« أشباح المحيط » التي تماثل المنزل في حجمها، يتخيل ديكسون عالمًا يسكنه
التي تبرز من المستنقعات « قناديل المستنقعات » بحر تماثل الشاحنات حجمًا، و
حبار يزن عدة أطنان يعيش على اليابسة. ليست ؛« الحبار الهائل » لكي تتغذى، و
مسارًا ناجحًا للتطور من السمك إلى الطيور. « فليش » كل الكائنات ضخمة؛ إذ يمثل
يتخذ بيتر وارد، الجيولوجي بجامعة واشنطن، منهجًا أكثر واقعية تجاه علم
الأحياء التنبئي؛ إذ يعتمد في تنبؤاته على الضغوط الحالية. إنه يعتقد أن الاحترار
العالمي وفقد الأراضي العشبية سيسببان نهاية الثدييات الكبيرة كالأسود والنمور
نهاية كل شيء
التصنيفات » والدببة، أما الفائزون فهم الكائنات المندرجة في الفئة المعروفة باسم
التي تتنوع بسرعة ولها معدل انقراضمنخفضنسبيٍّا. سيحابي الضغط « الإضافية
البيئي الثعابين والصراصير والطيور الطوافة، بالإضافة إلى الجرذان العملاقة؛ وفي
هذا يتفق بيتر وارد مع ديكسون والعديد من علماء الأحياء التطورية.
هذه الأنواع الناجحة يدفع بعضها بعضًا إلى درجة أكبر من التنوع؛ فالثعابين
تأكل القوارض لذا ستستجيب لأي قدرة جديدة أو تقدم يحدث للقوارض. يبدي
وارد تفاؤلًا أكبر بشأن مستقبل البشرمقارنةً بديكسون، لكنه يقر بأن عملية التنبؤ
ليست سهلة على الإطلاق. إنه يعتقد أن الجبروت الحالي الذي نتصف به، والذي
نعبث به مع التطور، يمكن أن يكون له عواقب سيئة وغير مقصودة.

1) نهايات التطور )
1-1 ) القادمون والذاهبون )
الوقت مبكر جدٍّا لأن نحدد هل الإنسان؛ ذلك القرد عديم الشعر ذو الألعاب الخطيرة،
سيقصينفسه من تجميعة الجينات. نأمل ألا يحدث ذلك، وإلا سنصير حينئذ جزءًا من
الطبيعة، لا كائنات مميزة منفصلة عن الطبيعة. لا يزال نوعنا في مقتبل الحياة؛ إذ نبلغ
« الإنسان المنتصب » من العمر ٢٠٠ ألف عام فقط. وقد عاش أسلافنا القدامى من سلالة
لمدة ١٫٥ مليون عام. وبالتغاضيعن القصة التحذيرية لأبناء عمومتنا من سلالة إنسان
نياندرتال، الذين انقرضوا بعد ١٠٠ ألف عام على وجودهم، نود أن نعتقد أننا لا نزال
في نقطة البداية وحسب.
إن الطفرات والبيئة المتغيرة هما العاملان المحركان للتطور، لكن الأنواع الأكثر
نجاحًا لديها قدرة رائعة على الصمود؛ فأسماك القرش والتماسيح ثابرت لعشرات
الملايين من السنوات ولم تمر إلا بعدد قليل من التغيرات؛ لأنها تتمتع بقدرة رائعة على
التكيف. بل سجلت بعضالكائنات الحية الأبسط أداءً أفضل؛ فالبكتيريا اللاهوائية كانت
موجودة بوفرة في السنوات الأولى لكوكب الأرض، ولا تزال موجودة في البيئة المعاصرة.
عاشت مستعمرات البكتيريا التي يطلق عليها اسم الرقائق الكلسية الطحلبية في النظم
البيئية الساحلية ذات الشعب المرجانية طوال ٣٫٥ مليارات عام. ليس بالضرورة أن

ما وراء الانتخاب الطبيعي
يكون التكيف مثاليٍّا؛ إذ يجب أن يكون جيدًا بدرجة كافية. خير مثال على ذلك العين
لدى الفقاريات ذات الشبكية المقلوبة والبقعة العمياء. إن الحياة محفوفة بالمخاطر، وإن
شبهناها بإحدى ألعاب الورق فسنجد أن بعض الأنواع جمعت بعض الأوراق الجيدة
وتجلس في صبر انتظارًا للخطوة التالية.
الأنواع تأتي وتذهب، وليس تتبعها بالأمر التافه. لقد جرى تحديد حوالي مليوني
نوع وتصنيفها إلى فئات، وعلى أفضل التقديرات ما هذا إلا أقل من ١٠ ٪ من الإجمالي.
يعد معدل الانقراض السريع الحالي مشكلةً إضافيةً؛ فحسبما ذكرت البيولوجية دافني
بينما نجد العديد » : فاوتين، عضو الفريق الدولي المسئول عن جمع قوائم بالأنواع الجديدة
من الأنواع الجديدة، يختفي عدد أكبر من الأنواع بأسرع مما يمكننا اكتشافه. العديد من
«. الأنواع انقرضت تمامًا ولن نعرف أبدًا أنها كانت موجودة
إن أكثر من نصف الأنواع المعروفة حشرات، بما في ذلك ٣٥٠ ألف نوع من
الخنافس. حين سئل عالم الوراثة البريطاني، جي بي إس هالدين، عما استنتجه من
«. إن كان موجودًا فهو مغرم بشدة بالخنافس » : دراسته للطبيعة عن الخالق كانت إجابته
ويشهد علم الحفريات الأكاديمي خلافًا بين من يصنفون الكائنات الحية إلى فئات عديدة
أو قليلة، إضافة إلى من يعتقدون أن التطور يتقدم في دفعات مفاجئة، ومن يرون أنه
يتسم بوتيرة سلسة انسيابية.
من المرجح أننا اكتشفنا معظم الثدييات والطيور، لكننا لا نلم إلا بالقليل من
المعلومات عن المجموعات الأخرى كالديدان الأسطوانية. وحين يتعلق الأمر بالأنواع
الصغيرة للغاية يمكن القول إننا لا نزال في بداية الطريق. في إحدى الدراسات عُثر على
١٠ آلاف نوع بكتيري في جرام واحد من التربة بولاية مينسوتا، وهو ما يقارب ربع كل
ما جرى استنباته أو تصنيفه من أنواع، وذلك تفنيد مثالي لرأي من يدعون أنه ليس
.« أرضالعشرة آلاف بحيرة » هناك الكثير من الحياة في مينسوتا؛ المسماة ب
يرجع تعقيد مهمة تصنيف التنوع الحيوي إلى ارتباط جزء كبير منها بالأماكن
النائية أو الغريبة؛ فنسبة ٧٠ ٪ من الأنواع المعروفة تعيش في ١٢ دولة: أستراليا
والبرازيل والصين وكولومبيا والإكوادور والهند وإندونيسيا والمكسيك ومدغشقر وبيرو
وزائير وكوستاريكا. إنه ليسبعمل سهل لعلماء الطبيعة. لقد أرسل العالم كارل لينيوس،
رائد علم التصنيف الذي عاش في القرن الثامن عشر، العديد من طلابه من السويد مزودًا
إياهم بتعليمات للبحث بحماس عن أنواع جديدة. مات ثلثهم أثناء رحلاتهم، لكن تمثلت
المكافأة في استخدام نظامه في تسمية أي كائن جديد.

نهاية كل شيء
ما المشكلة في تحديد اسم؟ أيٍّا كان الاسم الذي نطلقه على الوردة فهي ستبعث
برائحة عذبة. إن حدث أن اكتشفت حيوانًا أو نباتًا أو معدنًا فقد جرت العادة على أن
تحصل على ميزة تسميته. عادةً ما يتم هذا الأمر بحصافة وعلى نحو لائق، لكن قد لا
يكون الحال هكذا دومًا.
استهل لينيوس التدني في مستوى التسمية حين سمى أحد الأعشاب القبيحة باسم
أحد نقاده. كتب ريتشارد فورتي، أحد كبار علماء الحفريات في متحف التاريخ الطبيعي
في نيويورك، يحكي عن زميل له أنه كان يكره الشيوعيين، ولذا أطلق على دودة كان قد
لكنه كان يحب البغاء، لذا أطلق على اثنين من ،« خروشوفيا ريديكيولا » اكتشفها اسم
وأطلق كوينتين ويلر على .« جوني روتيني » و « سيد فيشيوسي » ثلاثيات الفصوص اسم
الخنافس التي تأكل الفطر المخاطي اسم جورج دابليو بوش وأعضاء مجلسه الوزاري،
لكنه أقسم أنه كان جمهوريٍّا طيلة حياته، وأن هذا الفعل كان على سبيل المجاملة.
لكن كان الاسكتلندي جي دابليو كيركالدي أكثر رومانسية؛ إذ أطلق على مجموعة من
الجراثيم اللاحقة اليونانية نفسها، بحيث أصبحت تبدو كقائمة لغرامياته على النحو
التالي: فلوريشيزمي، وماريشيزمي، وبيجيشيزمي، وما إلى ذلك. 1
أحيانًا تكون هناك قصة طويلة وراء إحدى التسميات، لكن في أحيان أخرى يكون
السبب واضحًا إلى حد ما. تدبَّر مثلًا بعض الأسماء الجديدة الموضوعة في العقدين
أجرا » و « أجرا فيشن » الماضيين؛ على غرار نوعي الخنافس اللذين أطُلق عليهما اسم
والكائن الرخوي ،« بينوس ريجيدوس » وشجرة الصنوبر التي أطلق عليها اسم ،« فوبيا
وفأر الكنغر المنقرض الذي أطلق عليه اسم ،« أبرا كادابرا » الذي أطلق عليه اسم
ونوع الحلزونات ،« أورسون ويلز » ونوع العناكب الذي أطلق عليه اسم ،« واكي واكي »
ليس من الضروري أن تكون .« بيتيوم » الذي يصغر في الحجم عن النوع « ليتيبيتيوم »
عالم طبيعة كي تعبث بالأسماء. في عام ٢٠٠٥ دفع أحد مواقع الويب المتخصصة في
المقامرة مبلغ ٦٥٠ ألف دولار مقابل تسمية قرد من بوليفيا، وعام ٢٠٠٧ أقامت إحدى
فرق المحافظة على البيئة مزادًا على حقوق تسمية ١٠ أنواع من السمك مع تخصيصالمال
من أجل الحفاظ على مواطنها. ودعا ستيفن كولبير أحد علماء البيولوجيا إلى برنامجه
التليفزيوني وأقنع هذا العالم بتسمية أحد العناكب باسمه. 2
إن تسمية الأشياء أمر مطمئن، لكنَّ تتبع مسارها من وإلى تجميعة الجينات أصعب
بكثير، فالعينات غير المكتملة التي لا تعطينا نظرة كاملة عن التنوع الحيوي تعني أننا

ما وراء الانتخاب الطبيعي
قد نعلن عن انقراض أحد الأنواع في حين أنه لم ينقرض: أفضل مثال على هذا التأثير،
المسمى بتأثير لازاروس، هو سمك كولاكانت الذي أعيد اكتشافه عام ١٩٣٨ ، بعد أن ظُنَّ
أنه انقرضمنذ ٨٠ مليون عام. أحيانًا يكون أحد الأنواع قاب قوسين أو أدنى من الزوال
لكنه يتمكن من البقاء.
2-1 ) التعلق بخيط )
بعددهم البالغ ٦٫٨ مليارات نسمة، يكون البشر أبعد ما يكونون عن خطر الانقراض.
لكن لم يكن الحال هكذا دومًا؛ فقصة أسلافنا يرويها دنا الميتوكوندريا والكروموسوم
وهما جزءا الجينوم اللذان لم يتغيرا بفعل التطور من جيل إلى آخر. لقد أشار نموذج ،Y
إلى أننا جميعًا ورثنا الحمض النووي من ميتوكوندريا أنثى « وارد من أفريقيا حديثًا »
Y عاشت في أفريقيا منذ حوالي ١٦٠ ألف عام، وأن جميع الرجال ورثوا كروموسومات
من رجل أفريقي عاش منذ ٦٠ ألف عام. وبعد ظهور نوعنا مباشرة انقسم إلى مجموعة
جنوبية؛ صارت أفراد قبائل البوشمان المعاصرين، ومجموعة شرقية تضم كل البشر
الآخرين، بمن فيهم نحن.
عانت أفريقيا من الجفاف بين ٩٠ و ١٣٥ ألف عام مضت، وتوضح أدلة الحمض
شديد الضيق، ربما أدى إلى انخفاض عدد « عنق زجاجة » النووي أن السكان مروا ب
السكان إلى عدد قليل وصل إلى ألفي فرد. وبعد انقضاء فترات الجفاف، تعافى السكان
وصارت هناك حوالي ٤٠ مجموعة من البشر منتشرة في أنحاء أفريقيا. حدث إجهاد بيئي
إضافي بسبب انفجار بركان هائل الحجم يدعى توبا في جزيرة سومطرة منذ ٧٤ ألف
عام؛ مما أدى إلى عملية تبريد شديد استمرت لعدة سنوات. ومنذ حوالي ٦٠ ألف عام
بدأت مجموعتان — ربما قوام كل منهما عدة مئات من الأفراد — في الهجرة الملحمية
التي ملأت العالم بالسكان. انتشر البشر إلى آسيا أولًا ثم أستراليا منذ ٥٠ ألف عام،
وأوروبا منذ ٣٥ ألف عام، والأمريكتين منذ ١٥ ألف عام.
حين يتقلصالتنوع الجيني في عنق زجاجة سكاني يمكن أن يتسبب في الانقراض؛
لأن الناجين ربما لا يستطيعون التكيف مع الضغوط الانتخابية الجديدة. إننا نتعلق
بخيط رفيع، لكن القصة انتهت على نحو طيب في حالة البشر. وحسبما ذكر سبنسر
ويلز، مدير المشروع الجينوغرافي والمستكشف المقيم في الجمعية الجغرافية الوطنية:
توضح هذه الدراسة الجديدة قوة علم الوراثة الاستثنائية في الكشف عن الرؤى المتعلقة »

نهاية كل شيء
ببعضالأحداث الرئيسية في تاريخ أنواعنا، فقد عادت مجموعات صغيرة من أوائل البشر
الذين أجبرهم الضغط البيئي القاسي على الانفصال من حافة الانقراض لتتحد وتملأ
3«. العالم بالسكان. إنها حقٍّا دراما ملحمية مكتوبة في حمضنا النووي
تلعب الصعاب المؤدية إلى عنق الزجاجة السكاني دورًا مزدوجًا في البقاء التالي عليه؛
فالبيئة مختلفة، ومن ثم لا بد من تطوير سلوكيات واستراتيجيات جديدة بسرعة. الأمر
أشبه بإتقان لعب التنس طيلة حياتك وفجأة صار عليك ممارسة سباق التزلق الجماعي.
لكن الأنواع التي تطور سلوكيات جديدة تتمتع بمزايا فارقة في الصراع على الموارد. من
منظور علم الوراثة تعد ظواهر عنق الزجاجة أخبارًا سيئة، فالجنوح الجيني يزداد
لكن تجميعة الجينات تتقلص؛ لذا تبقى الجينات سيئة التكيف وتنتشر؛ لأنها لا تخضع
للاستبعاد على نحو فعال في مجتمع يتناقص عدده تدريجيٍّا. وقد توصل الباحثون إلى
أن البشر والشمبانزي جمعا نحو ١٤٠ ألف طفرة لا فائدة لها بالحمضالنووي منذ أن
انفصل النوعان أحدهما عن الآخر. وفي الفئران والجرذان المنتمية للفترة الفاصلة نفسها
والمتميزة بتركيب جيني متشابه إلى حد بعيد، تراكمت طفرات جينية أقل بصورة ملحوظة.
.(1- ذلك يجعلنا أكثر عرضة من القوارضللأمراضالوراثية كالسرطان (الشكل 4
إلى أي مدى سيضعف الخيط قبل أن ينقطع؟ في علم البيئة ثمة حد أدنى لعدد
٪ أفراد المجتمع القابل للحياة تتنبأ النماذج فيه باحتمالية بقاء تتراوح من ٩٠ إلى ٩٥
لعدد من الأجيال المستقبلية يتراوح بين ٤٠ إلى ٤٥ جيلًا، وعند الثدييات الكبيرة، هذا
العدد هو حوالي ٥٠ فردًا.
3-1 ) عن الميكروبات والبشر )
في سباق التسلح التطوري بين الميكروبات والبشر تتقدم الجراثيم بمسافات طويلة.
وأنت تقرأ هذه المعلومة يزيد عدد البكتيريا عشرة أضعاف عن عدد الخلايا الموجودة في
جسدك البالغ ١٠ تريليون خلية؛ هذه البكتيريا تنتمي لألف نوع مختلف تقريبًا، أغلبها
لا يمكن استنباته في المعمل. أغلب الكتلة الحيوية الميكروبية موجودة تحت الأرضأو في
المحيطات، حيث لا تكون مرئية بسهولة، ومع أن كل واحدة منها لا تزيد في الوزن عن
× واحد على الكدريليون من الجرام، فإنها تزن إجمالًا مليار طن، ويبلغ عددها قرابة ٦
٣٠١٠ خلية.

معظم هذه الكائنات الدقيقة حميد، لكن أبناء عمومتها الخبثاء — الفيروسات
والبريونات — يتطلعون للتسبب في مشكلات لنا، وأبوابنا ونوافذنا المجازية مفتوحة
على مصاريعها. ليس الأمر أننا نعيش في عالم ميكروبي بدرجة هائلة وحسب، بل إن
البكتيريا التي تقطن أجسادنا تسهم في المادة الوراثية بقدر أكبر مما تسهم به أجسادنا
مضللًا؛ فالبكتيريا تشاركنا في غذائنا، « نحن » و « هم » نفسها. علاوةً على ذلك، يعد مفهوم
لكنها تتفاعل مع أجسادنا والبيئة بطرق معقدة، حتى إنه من الأفضل التفكير في البشر
على أنهم هجين من البكتيريا والإنسان، فالبكتيريا هي الخيوط التي ينسج منها القماش البشرى



إن التعايش مع نظام بيئي ميكروبي معقد أمر مربك، لكن المعدلات النسبية للتطور
هي التي تجعلنا في وضع غير مواتٍ. ففي خلال ١٠ سنوات تنتج البكتيريا ٢٠٠ ألف
جيل، وهو العدد نفسه الذي أنتجته سلالة البشر منذ انفصالها عن سلالة الشمبانزي.
وفي وقت أقل مما يستغرقه جيل واحد من البشر شهدنا ظهور عشرات من البكتيريا
المقاومة للمضادات الحيوية وعدد كبير من الأمراض الجديدة المدمرة كالإيدز؛ إذ يُنتَج
١٠ مليارات جسيم فيروسي جديد كل يوم في كل شخص مصاب بفيروس نقص المناعة
البشرية. وحين تتعرض البكتيريا لمضادات حيوية فهي إما تقاومها أو تموت. وكل
من الفيروسات والبكتيريا تزيد من سرعة عملية التطور عن طريق نقل كتل كبيرة من
الحمض النووي في عملية يطلق عليها اسم النقل الأفقي للجينات. إن البشر يواجهون
للروائي « عبر المرآة » مأزقًا تطوريٍّا مماثلًا لذلك الذي صاغته الملكة الحمراء في رواية

ما وراء الانتخاب الطبيعي
يتطلب الأمر كل الركضالذي تستطيع أن تركضه فقط كي تبقى » لويس كارول؛ حيث
.« في المكان نفسه
على لسان جوشوا « ساينس » تدبر التعليق التالي الذي ورد عام ٢٠٠٠ في مجلة
إن ما » : ليدربرج الحائز على جائزة نوبل عن عمله في مجال التركيب الوراثي للبكتيريا
يجعل التطور الميكروبي مثيرًا للاهتمام والقلق الشديد هو ما تتسم به تلك المجتمعات
الميكروبية من ضخامة مهولة وتقلب شديد. إنها صيغة مثالية للتطور السريع للغاية.
ربما تشهد المجتمعات الميكروبية تقلبًا بمعامل يصل إلى ١٠ مليارات ضعف في اليوم
الواحد أثناء تنقلها بين الأجسام العائلة، أو أثناء مواجهتها للمضادات الحيوية أو
الأجسام المضادة أو الأخطار الطبيعية الأخرى. وتشير مقارنة بسيطة لسرعة التطور
بين الميكروبات والأجسام العائلة لها ذات الخلايا المتعددة إلى تفوق قدره مليون أو
مليار ضعف في مصلحة الميكروبات، فعام واحد من حياة البكتيريا يطابق بسهولة
نطاق التطور لدى الثدييات بأسره! وفي ضوء ذلك القياس يبدو أننا لا نزال في بدايات
4«. تطورنا
مع أنه يصعب على الطبيب لاري بريليانت أن يكون على مستوى معنى اسمه الأخير
فإنه حاول ذلك. لقد اتخذ مسارًا نادرًا لكي يشتهر ،(« الألمعي » (الذي يعني بالإنجليزية
كفاعل خير وعالمًا شهيرًا على المستوى الدولي في مجال علم الأوبئة. هذا المسار شمل
عمله طبيبًا للأمريكيين الأصليين حين سيطروا على جزيرة ألكاتراز عام ١٩٦٩ ، وعمله
ممثلًا ثانويٍّا في أفلام بهوليوود، وتأسيس واحد من أول المجتمعات الإلكترونية على شبكة
الإنترنت عام ١٩٨٥ ، والمساعدة في إنقاذ بصر مليوني شخص في البلدان النامية. وربما
يتمثل أكبر إنجازاته كطبيب شاب في أنه جزء من الفريق الذي قضىعلى مرضالجدري.
. عام ٢٠٠٦ (google.org) اختير بريليانت مديرًا تنفيذيٍّا لمؤسسة جوجل دوت أورج
هذه المؤسسة هي الذراع الخيرية لشركة البحث العملاقة جوجل، ونال عمله الدعم بفضل
الالتزام الذي أبداه مؤسسو جوجل بتخصيص نسبة ١٪ من أسهم الشركة بالإضافة إلى
١٪ من الأرباح لأعمال الخير. يريد بريليانت تحويل شبكة الإنترنت إلى حارس يحذر
العالم من أي وباء وشيك، سواء أكان إنفلونزا الطيور أم شكلًا جديدًا من فيروس
نأمل في تطوير علم جديد تمامًا للأوبئة ومراقبة الأمراض » : نقصالمناعة البشرية. يقول
الموجودة بالفعل واكتشاف الأمراضالناشئة مبكرًا … وأيضًا استخدام مناورات التدريب
على طاولة الخرائط والمجسمات الميدانية مع الاستعانة بأساليب شن الحروب للوصول
«. إلى استجابة أفضل للأوبئة

نهاية كل شيء
كيف سيجري الأمر؟ ستعالج أدوات وبرمجيات تقارير شبكة الويب بحثًا عن
ظهور الأعراض مثل الحمى أو مشكلات الجهاز التنفسي، وسيُستخدم برنامج جوجل
إيرث في البحث عن أنماط المرض أو الانتشار الجغرافي له، وكل هذا سيجتمع مع
المعلومات الوراثية عن الكائنات الممرضة المحتملة والموجودة بالفعل. 5 يقول بريليانت:
لو كنا موجودين في اللحظة التي شهدت ميلاد فيروس نقص المناعة البشرية (الإيدز) »
«. لاستطعنا الحيلولة دون هذا الوباء الرهيب
في عام ٢٠٠٨ ، ترك بريليانت جوجل ليرأس صندوق التهديدات العاجلة لمؤسسة
سكول. من السهل أن نرى مدى قلقه بشأن الأوبئة؛ فبخلاف الانتشار المتزايد للبكتيريا
المقاومة للمضادات الحيوية، ثمة ظهور متزايد للأمراضالتي تخترق حاجز النوع بحيث
تنتقل من الحيوانات إلى الإنسان، ومنها إنفلونزا الطيور وداء الكلب وسارس وفيروس
التهاب الدماغ الياباني وفيروس حمى الضنك وفيروس غرب النيل وحمى لاسا (الشكل
3-4 ). ربما تعد الحمى الفيروسية الأكثر إثارة للذعر؛ لأنها فتاكة على الأغلب، علاوة على
أنه ليس لها علاج. ففي الفترة بين عامي ٢٠٠٠ و ٢٠٠٥ ، أصيب ٥٠ مليون شخص
بأمراض من الحيوانات، مات من بينهم ١٠٠ ألف شخص. وسنحتاج إلى خط دفاعي
ذكي لصد هذا المد الرهيب.
4-1 ) نحن والمستقبل )
فسنواجه مشكلة عويصة؛ فمعدل « البقاء للأقوى » إذا عرَّفنا الانتخاب الطبيعي على أنه
السمنة حوالي ٣٠ ٪ في معظم البلدان الصناعية، والشخصالبالغ العادي يتنفسبصعوبة
بعد صعوده عدة درجات من السلم، و ٥٠ ٪ من الأمريكيين تقريبًا يحتاجون إلى تصحيح
الإبصار، و ٣٠ ٪ من المواليد يولدون ولادة قيصرية بدلًا من الولادة الطبيعية. ويتسبب
الوصف المبالغ فيه للعقاقير والتخوف الزائد من الجراثيم في ضعف الأجهزة المناعية لدى
العديد من البالغين، مع ضعف القدرة على التعافي. فإن جردنا البشر من التكنولوجيا
ودفعنا بهم إلى مواقف الصيد وجمع الطعام التي كانت غالبة منذ ١٠ آلاف عام، فلن
يبقى أغلبهم على قيد الحياة لمدة شهر.
بدلًا من ذلك اختار البشر أن يقصوا أنفسهم من اللعبة؛ فالأدوات والتكنولوجيا
يبدو أنها أعفت البشرمن الهرج والمرج المصاحبَين للمشهد الطبيعي القاسيالذي صوَّره
داروين. نحن نكيِّف أنفسنا، عمدًا، على الأشياء التي نقوم بها معظم الوقت؛ كالقيادة
ومشاهدة التليفزيون والجلوس بترهل إلى المكتب والتحديق في شاشة جهاز كمبيوتر.

0 التعليقات:

Post a Comment

شاهد ايضا