اكتشاف المجرات
منذ قرنين ونصف القرن، قبل أن يبني الفلكي الإنجليزي سير ويليام هيرشل أول
تلسكوب كبير عملي، كان الكون المعروف يتألف من لا شيء أكثر من النجوم والشمس
والقمر والكواكب وبضعة أقمار للمشتري وزحل، وبعض الأجرام الغائمة، إلى جانب
مجرة درب التبانة (أو اللبانة) التي تشبه حزامًا من قطرات اللبن المتساقط عبر سماء
بالإنجليزية مشتقة من الكلمة اليونانية galaxy الليل. في الحقيقة إن كلمة مجرة أو
،nebulae أو اللبن. حملت السماء أيضًا أجسامًا غائمة تسمى علميٍّا بالسُّدم أو galaktos
وهي كلمة مشتقة بالإنجليزية من كلمة لاتينية بمعنى السُّحب، وهي أجسام ذات أشكال
مبهمة على غرار سديم السرطان في كوكبة الثور، وسديم أندروميدا، الذي يوجد بين
نجوم كوكبة أندروميدا.
كان لتلسكوب هيرشل مرآة عرضها ثمانٍ وأربعون بوصة، وهو حجم لم يصل إليه
أي تلسكوب حتى ذلك الوقت، في عام ١٧٨٩ ، حين جرى بناؤه. وقد جعل نظام الروافد
المعقد الذي كان يدعم التلسكوب عملية استخدامه عسيرة للغاية، لكن حين وجهه هيرشل
إلى السماء استطاع بسهولة أن يرى عددًا لا حصر له من النجوم يؤلف مجرة درب
التبانة. تمكن هيرشل وأخته كارولاين — بالاستعانة بالمرآة ذات الثمانية وأربعين بوصة،
إلى جانب تلسكوب آخر أصغر وأسهل في الاستخدام — من وضع أول دليل فضائي
مصور شامل للسدم الشمالية. واستمر سير جون، ابن سير ويليام هيرشل، في السير
على خطى أسرته، وأضاف إلى قائمة السدم الشمالية التي وضعها والده وعمته، ثم أثناء
إقامته الطويلة في رأس الرجاء الصالح في الطرف الجنوبي لقارة أفريقيا أدرج نحو
١٧٠٠ جسم غائم يمكن رؤيتها من نصف الكرة الجنوبي. وفي عام ١٨٦٤ جمع سير
البدايات
الدليل المصور العام للسدم وعناقيد » جون جميع الأجسام الفضائية المعروفة في مؤلفه
الذي ضم أكثر من خمسة آلاف مدخل. ،« النجوم
بالرغم من البيانات الكثيرة المتاحة عن السدم، لم يعرف أحد في ذلك الوقت ماهيتها
الحقيقية، أو مقدار بعدها عن الأرض، أو الاختلافات بين بعضها وبعض. ومع ذلك فقد
أتاح الدليل الصادر عام ١٨٦٤ إمكانية تصنيف السدم حسب أشكالها. أطلق الفلكيون،
الذي يتبناه حكام لعبة البيسبول « إننا نسمى الأشياء حسبما نراها » متبعين في ذلك منهج
(الذين حصلوا على الاعتراف الرسمي في حدود الوقت عينه الذي نشر فيه دليل هيرشل
أما تلك الشبيهة بالشكل ،« السدم الحلزونية » العام)، على السدم ذات الشكل الحلزوني ب
وأطلقوا على السدم العديدة ذات الأشكال ،« السدم البيضاوية » البيضاوي فقد أسموها ب
وأخيرًا، .« السدم غير المنتظمة » غير المنتظمة — التي لا هي حلزونية ولا بيضاوية — اسم
أطلقوا على السدم التي بدت صغيرة ومستديرة، مثل الصورة التلسكوبية للكوكب، اسم
وهو ما دأب على التسبب في حيرة كبيرة لكل الوافدين الجدد على علم ،« السدم الكوكبية »
الفلك.
ظل علم الفلك، طوال الجزء الأعظم من تاريخه، علمًا صريحًا، يستخدم طرقًا
وصفية في البحث تشبه كثيرًا تلك المستخدمة في علم النبات. وقد عمد الفلكيون،
بالاستعانة بقوائم مجموعات النجوم والأجرام الغائمة الآخذة في التزايد، للبحث عن
أنماط، ثم صنفوا هذه الأجرام وفقًا لها. وهذه خطوة منطقية أيضًا. فأغلب البشر،
منذ الطفولة، يرتبون الأشياء في مجموعات حسب المظهر والشكل، حتى دون أن يُطلب
منهم ذلك. بيد أن هذا الأسلوب لن يفيد إلا بدرجة محدودة. وبما أن الأجسام الغائمة
تحتل مساحات تبدو بالحجم نفسه تقريبًا في سماء الليل، افترض آل هيرشل أن جميع
السدم تقع على نفس المسافة من كوكب الأرض؛ لهذا بدا لهم أن تصنيف جميع السدم
باستخدام القواعد نفسها أمر ملائم ومنصف من الناحية العلمية.
لكن المشكلة كانت أن الافتراض بوقوع جميع السدم على نفس المسافة من الأرض
كان خطأً كبيرًا. يمكن للطبيعة أن تكون محيرة، بل خداعة أحيانًا. فبعض السدم التي
صنفها آل هيرشل ليست أبعد كثيرًا من النجوم؛ لذا فهي أصغر نسبيٍّا (هذا إذا أمكن
بينما اتضح أن سدمًا أخرى .(« أصغر نسبيٍّا » وصف مساحة قدرها تريليون ميل بأنها
أبعد بكثير؛ لذا لا بد أنها أكبر بكثير من الأجسام الغائمة القريبة نسبيٍّا منا إذا كان
الاثنان يبدوان بالحجم نفسه في السماء.

اكتشاف المجرات
الدرس المستفاد هنا هو أنه في نقطة ما عليك التوقف عن التركيز على ما يبدو عليه
الشيء، والبدء في التساؤل عن ماهيته. ولحسن الحظ، بحلول القرن التاسع عشر، مكن
التقدم العلمي والتكنولوجي الفلكيين من عمل هذا الأمر، وأن يفعلوا ما هو أكثر من
مجرد تصنيف محتويات الكون. أدى هذا التحول إلى مولد علم الفيزياء الفلكية، المعنِيِّ
بالتطبيق المفيد لقوانين الفيزياء على المواقف الفلكية.
إبان الفترة نفسها التي نشر فيها سير جون هيرشل دليله المصور الواسع عن السدم،
انضمت أداة علمية جديدة، هي منظار التحليل الطيفي أو المطياف، إلى رحلة البحث
عن السدم. إن وظيفة المطياف الوحيدة هي تحليل الضوء الأبيض إلى ألوانه الأساسية
التي يتألف منها. من شأن هذه الألوان، والسمات التي تحملها، ألا تكشف عن التفاصيل
الدقيقة للتركيب الكيميائي لمصدر الضوء فقط، بل أن تكشف أيضًا، بفضل الظاهرة
المعروفة باسم تأثير دوبلر، عن تحرك مصدر الضوء إما نحو الأرضأو بعيدًا عنها.
كشف التحليل الطيفي عنشيء مذهل: فالسدم الحلزونية، التي تهيمن على النطاق
المحيط بمجرتنا، تتحرك جميعها تقريبًا مبتعدة عن كوكب الأرض، وبسرعات كبيرة.
وعلى النقيض فإن جميع السدم الكوكبية، إضافة إلى أغلب السدم غير المنتظمة، تتحرك
بسرعات بطيئة نسبيٍّا؛ البعض منها يتجه نحونا والبعض الآخر يبتعد عنا. هل وقع
انفجار كارثي في قلب مجرة درب التبانة متسببًا في طرد جميع السدم الحلزونية؟ إن
صح هذا، فلماذا لا ترتد أي منها إلينا مجددًا؟ هل رصدنا هذه الكارثة في وقت خاص؟
على الرغم من التقدم الذي شهده علم التصوير وأنتج لنا سوائل تحميض أسرع، ما
مكن الفلكيين من قياس الطيف الضوئي للسدم الأكثر إعتامًا، على الرغم من هذا التقدم
تَوَاصَلَ ابتعادُ السدم هذا وظلت هذه الأسئلة دون إجابة.
تحققت أغلب الطفرات في علم الفلك، والعلوم الأخرى، بفضل ظهور أشكال جديدة
من التكنولوجيا. وفي مستهل العقد الثالث من القرن العشرين ظهرت أداة جوهرية على
الساحة؛ تلسكوب هوكر المهول البالغ قطره ١٠٠ بوصة في مرصد جبل ويلسون بالقرب
من باسادينا بكاليفورنيا. وفي عام ١٩٢٣ استخدم الفلكي الأمريكي إدوين بي هابل
هذا التلسكوب — الأكبر في العالم في ذلك الوقت — للعثور على نوع جديد من النجوم،
المتغير القيفاوي، الموجود في سديم أندروميدا. تتباين شدة سطوع النجوم المتغيرة وفق
أنماط معروفة، والنجوم المتغيرة القيفاوية، المسماة على اسم أول نجم اكتُشف من هذه

البدايات
الطبقة من النجوم، وكان نجمًا في كوكبة الملتهب (قيفاوس)، تتسم بالسطوع الشديد،
ومن ثم يمكن رؤيتها من على مسافات بعيدة. ولأن سطوعها يتباين على دورات يمكن
تمييزها يستطيع المراقب الحريص اكتشاف عدد كبير منها. وقد وجد هابل عددًا من
هذه المتغيرات القيفاوية داخل مجرة درب التبانة، وقدر مسافاتها، بيد أنه دُهش من أن
المتغير القيفاوي الذي وجده في أندروميدا كان أخفت بكثير من غيره.
كان التفسير الأرجح لهذا الخفوت هو أن المتغير القيفاوي الجديد، وسديم أندروميدا
الذي يوجد فيه، يقع على مسافة أبعد من القيفاويات الأخرى الموجودة في مجرة درب
التبانة. أدرك هابل أن هذا يضع سديم أندروميدا على مسافة بعيدة للغاية حتى إنه
يستحيل أن يوجد بين نجوم كوكبة أندروميدا، ولا في أي مكان داخل مجرة درب التبانة،
ومن المستحيل أيضًا أن يكون قد خرج منها، إلى جانب إخوته من السدم الحلزونية،
أثناء الانفجار اللبني الكارثي.
كانت تبعات اكتشاف هابل مذهلة؛ إذ إنه بيَّن أن السدم الحلزونية هي نظم كاملة
مستقلة بذاتها من النجوم، وأنها لا تقل عن مجرة درب التبانة في الحجم أو في عدد
النجوم. وإذا استعرنا تعبير الفيلسوف إيمانويل كانط يمكن القول إن هابل بَيَّنَ لنا أن
تقع خارج مجرتنا، خاصة وأن أندروميدا كانت بداية لقائمة « الجزر الكونية » عشرات
« مجرة » من السدم الحلزونية المعروفة. إن سديم أندروميدا، في واقع الأمر، ما هو إلا
أندروميدا.
بحلول عام ١٩٣٦ اكتُشف عدد كافٍ من الجزر الكونية، وصورت من خلال التلسكوب
هوكر وغيره من التلسكوبات، وهو ما دفع هابل إلى تجربة حظه، هو الآخر، في محاولة
تصنيفها حسب الشكل. ارتكن تحليله لأنواع المجرات على الافتراض غير المختبر القائل
إن الاختلافات في الشكل من مجرة لأخرى إنما يرمز لمراحل تطورية في حياة المجرة،
عالم » من المولد وحتى الفناء. وقد صنف هابل، في كتابه الذي صدر عام ١٩٣٦ بعنوان
المجرات من خلال وضع الأنواع المختلفة على امتداد مخطط أشبه بالشوكة ،« السُّدم
الرنانة، التي يمثل مقبضها المجرات البيضاوية، مع المجرات البيضاوية الكروية عند
الطرف الأقصى للمقبض، بينما المجرات البيضاوية المسطحة قرب نقطة التقاء فرعي
الشوكة. وعلى امتداد أحد الفرعين توجد المجرات الحلزونية العادية؛ على أن تكون
القريبة من المقبض لها أذرع حلزونية ملتفة بإحكام، والقريبة من طرف الفرع لها

اكتشاف المجرات
أذرع حلزونية مفتوحة أكثر. وعلى الفرع الثاني توجد المجرات الحلزونية التي يظهر
مستقيم من النجوم، لكنها فيما عدا ذلك تشبه المجرات الحلزونية « قضيب » في مركزها
العادية.
تخيل هابل أن المجرات تبدأ حياتها كمجرات بيضاوية كروية، ثم تصير أكثر
تسطحًا مع الوقت، وفي النهاية تظهر بنية حلزونية تبدأ في الانتشار مع مرور الوقت.
فكرة عبقرية، جميلة، وأنيقة. لكنها خاطئة تمامًا. فهذا النظام لا يتغاضىعن مجموعات
كاملة من المجرات غير المنتظمة وحسب، بل إن علماء الفيزياء عرفوا لاحقًا أن أقدم
النجوم في كل مجرة كانت جميعها لها العمر نفسه، وهو ما يعني أن المجرات جميعها
ولدت إبان حقبة وحيدة من تاريخ الكون.
لثلاثة عقود (مع ضياع بعض فرص البحث بسبب الحرب العالمية الثانية)، رصد
الفلكيون وسجلوا مواقع المجرات بما يتوافق ومخطط شوكة هابل الرنانة كمجرات
بيضاوية وحلزونية وحلزونية قضيبية، مع وضع العدد القليل من المجرات غير المنتظمة
كمجموعة فرعية، تقع خارج المخطط تمامًا بسبب أشكالها الغريبة. بالنسبة للمجرات
البيضاوية يمكن أن نقول عنها نفس ما قاله رونالد ريجان عن أشجار كاليفورنيا
الحمراء: إن رأيت واحدة فقد رأيتها كلها. تشبه المجرات البيضاوية بعضها بعضًا
من حيث إنها لا تملك تلك الأذرع الحلزونية المميزة للمجرات الحلزونية، ولا السحابة
العملاقة من الغاز والغبار النجمي التي تتولد منها النجوم الجديدة. ففي تلك المجرات
انتهى تكون النجوم منذ مليارات الأعوام، وما تبقى هو مجموعات من النجوم تأخذ
شكلًا بيضاويٍّا أو كرويٍّا. تحتوي أكبر المجرات البيضاوية، شأن أكبر المجرات الحلزونية،
على مئات المليارات من النجوم في كل مجرة منها — بل قد يصل العدد إلى تريليون
نجم أو أكثر — ويمتد قطرها لمئات الآلاف من السنوات الضوئية. وباستثناء الفلكيين
المحترفين، لم يتلهف أحد لمعرفة تاريخ الأنماط الرائعة والتكوينات المعقدة من النجوم
في المجرات البيضاوية؛ وذلك لسبب وجيه هو أن المجرات البيضاوية — على الأقل مقارنة
بالمجرات الحلزونية — أشكالها بسيطة، وعملية تكون النجوم بها مفهومة: فجميعها
حولت الغاز والغبار الموجود بها إلى نجوم، إلى أن توقفت عن فعل هذا تمامًا.
على العكس من ذلك نجد أن المجرات الحلزونية والحلزونية القضيبية تمدنا بالإثارة
البصرية التي تفتقر إليها المجرات البيضاوية. وأكثر صورة قد تستثير مشاعرنا من
صور المجرات التي قد نراها يومًا ستكون صورة مجرتنا، درب التبانة، الملتقطة من
95
البدايات
خارجها؛ فمن المؤكد أنها ستحرك قلوبنا وعقولنا، لكن هذا لن يحدث إلا حين نتمكن
من إرسال كاميرا تصوير لمسافة مئات الآلاف من السنوات الضوئية أعلى أو أدنى من
السطح المستوي لمجرتنا. لكن اليوم، حيث لم تقطع أبعد مجساتنا الفضائية إلا واحدًا
على مليار من هذه المسافة، يبدو هذا الهدف بعيد المنال، وفي الواقع حتى المجس القادر
على التحرك بسرعة تقارب سرعة الضوء سيتطلب منا انتظارًا طويلًا — أطول بكثير
من تاريخ البشرية المدون بأسره — كي يمدنا بالنتائج المرغوبة. وفي الوقت الحالي
على الفلكيين الاستمرار في رسم خريطة مجرتنا من الداخل، بحيث يرسمون غابتنا
الكونية من خلال فك طلاسم أشجارها النجمية والسديمية. تكشف هذه الجهود عن
أن مجرتنا تشبه كثيرًا أقرب جاراتها؛ مجرة أندروميدا الحلزونية العملاقة. لقد أمدتنا
مجرة أندروميدا — بفضل وقوعها على مسافة قريبة قدرها ٢٫٤ مليون سنة ضوئية —
بثروة من المعلومات بخصوص الأنماط البنيوية الأساسية للمجرات الحلزونية، إضافة
إلى أنواع النجوم المختلفة ومراحل تطورها. ولأن جميع نجوم مجرة أندروميدا تبعد
بنفس المسافة عنا (بزيادة أو نقصان بنسبة مئوية بسيطة)، يدرك الفلكيون أن اللمعان
الظاهري للنجوم يرتبط مباشرة بسطوعها؛ أي مقدار الطاقة التي تبعثها كل ثانية.
مكنت هذه الحقيقة — التي لا تفيد الفلكيين عند دراسة الأجرام الموجودة في مجرة درب
التبانة، لكنها قابلة للتطبيق مع كل المجرات خلاف مجرتنا — الفلكيين من استخلاص
نتائج جوهرية بشأن تطور النجوم بسهولة أكبر مما هو الحال مع النجوم الموجودة في
مجرتنا درب التبانة. إضافة إلى ذلك وفرت لنا المجرتان البيضاويتان التابعتان اللتان
تدوران حول مجرة أندروميدا — اللتين تحتوي كل منهما على نسبة مئوية بسيطة
من النجوم الموجودة في المجرة الرئيسية — معلومات مهمة بشأن حياة النجوم والبنية
المجرية الكلية للمجرات البيضاوية. وفي ليلة صافية بعيدًا عن أضواء المدينة يستطيع
المراقب قوي الملاحظة — الذي يدري أين ينبغي أن ينظر — تحديد الشكل الخارجي
العام لمجرة أندروميدا؛ أبعد شيء يمكن رصده بالعين المجردة، وهي تشع ضوءًا خرج
منها بينما كان أسلافنا يجوبون أرجاء أفريقيا بحثًا عن جذور النباتات وثمار العليق.
إن مجرة أندروميدا، مثل درب التبانة، تقع في منتصف المسافة على امتداد أحد
فرعي شوكة هابل الرنانة؛ لأن أذرعها الحلزونية ليست بالمغلقة أو المفتوحة. لو كانت
المجرات حيوانات موضوعة في حديقة حيوانات فسيكون هناك قفص واحد للمجرات
البيضاوية، وأقفاص عديدة للمجرات الحلزونية البهية. إن دراسة صور تلسكوب هابل
96
اكتشاف المجرات
الخاصة بإحدى هذه المجرات، في المعتاد تلك الواقعة على بعد ١٠ أو ٢٠ سنة ضوئية
(للمجرات القريبة)، تفتح الباب لعالم من الاحتمالات الغنية؛ عالم بعيد للغاية عن الحياة
الموجودة على سطح الأرض، عالم ذي بنية معقدة قد تجعل العقل غير المتأهب لها يتحير،
أو يدافع عن نفسه بتذكير صاحبه بأن أيٍّا من هذه الأشياء لن يفيد في إنقاص وزن أو
شفاء كسر.
تُشكل المجرات غير المنتظمة؛ أيتام نظام التصنيف المجري، نحو ١٠ بالمائة من
جميع المجرات، بينما تنقسم النسبة المتبقية بين المجرات الحلزونية والبيضاوية، مع
أفضلية واضحة للمجرات الحلزونية. المجرات غير المنتظمة، خلاف البيضاوية، تحتوي
عادة على نسب من الغاز والغبار أعلى من المجرات الحلزونية، وهي بهذا أنشط المواقع
التي تتكون بها النجوم على نحو متواصل. تدور حول مجرة درب التبانة مجرتان
تابعتان كبيرتان تسميان، على نحو قد يثير الحيرة، بسحابتي ماجلان؛ لأن أول من
رصدهما من البيض — وكانوا بحارة في رحلة ماجلان التي دار فيها حول الأرض في
عام ١٥٢٠ — ظنوا في البداية أنهم يرون خيوطًا من السحب في السماء. حظيت رحلة
ماجلان بهذا الشرف لأن سحابتي ماجلان تقعان بالقرب من القطب الجنوبي السماوي
(النقطة التي تعلو القطب الجنوبي لكوكب الأرضمباشرة) ولا ترتفعان قط فوق الأفق
للراصدين الموجودين في دوائر العرض الشمالية الأكثر ازدحامًا بالسكان، بمن في ذلك
الموجودون في أوروبا وغالبية الولايات المتحدة الأمريكية. تحوي كل واحدة من سحابتي
ماجلان مليارات عدة من النجوم، لكن عددها لا يصل إلى مئات المليارات مثلما هو الحال
في مجرة درب التبانة وغيرها من المجرات الكبيرة، كما تظهر بها أيضًا مناطق كثيفة
الموجود في سحابة ماجلان الكبرى. لهذه المجرة « سديم العنكبوت » لتكون النجوم، أبرزها
أيضًاشرف الكشف عن أكثر المستعرات العظمى سطوعًا على مدار الثلاثة قرون الماضية،
المسمى بالمستعر الأعظم ١٩٨٧ إيه، الذي لا بد أنه انفجر قبل الميلاد بمائة وستين ألف
. عام تقريبًا حتى يصل ضوءه الأرضعام ١٩٨٧
حتى الستينيات كان الفلكيون قانعين بتصنيف كل المجرات إلى مجرات حلزونية
أو حلزونية قضيبية أو بيضاوية أو غير منتظمة. وكانوا محقين في ذلك؛ إذ إن أكثر من
٩٩ بالمائة من المجرات كافة كانت تندرج تحت هذه الأنواع. (وفي ظل وجود مجموعة
تبدو هذه النتيجة مؤكدة.) لكن خلال ذلك ،« مجرات غير منتظمة » منها تحمل اسم
العقد الجميل، صار الفلكي الأمريكي هالتون آرب مناصرًا للمجرات التي لم تتوافق مع

البدايات
هذا التصنيف البسيط المكون من شوكة هابل الرنانة إلى جانب المجرات غير المنتظمة.
استخدم آرب — متحليًا بروح كلمات القصيدة المنقوشة على تمثال الحرية التي تقول:
أكبر تلسكوبات العالم، التلسكوب هال — « إليَّ بالجماهير المتعبة المسكينة المحتشدة »
البالغ قطر مرآته ٢٠٠ بوصة الموجود في مرصد بالومار بالقرب من سان دييجو
بكاليفورنيا، لتصوير ٣٣٨ من الأنظمة النجمية المشوهة بشكل كبير. وسرعان ما صار
المنشور في عام ١٩٦٦ ، صندوق كنز حقيقي من الفرص ،« أطلس آرب للمجرات الغريبة »
المعروفة — « المجرات الغريبة » البحثية لكلشيء سيئ يمكن أن يحدث في الكون. ومع أن
لا تفيها حقها « غير منتظمة » على أنها تلك المجرات ذات الأشكال العجيبة حتى إن صفة
— لا تشكل سوى نسبة ضئيلة من كل المجرات، فإنها تحمل معلومات مهمة بشأن ما
يمكن أن يحدث للمجرات حين لا تسير الأمور على نحو سليم. وقد اتضح، مثلًا، أن
العديد من المجرات الغريبة الموجودة في أطلس آرب هي اندماج لبقايا مجرتين منفصلتين
ليست أنواعًا مختلفة « الغريبة » اصطدمت إحداهما بالأخرى. هذا يعني أن تلك المجرات
من المجرات، تمامًا مثلما لا نعتبر السيارة اللكزس المحطمة نوعًا جديدًا من السيارات.
لتتبع ما ينجم عن مثل هذه الاصطدامات ستحتاج إلى أكثر من مجرد ورقة وقلم
رصاص؛ لأن كل نجم في كلا النظامين المجريين له جاذبيته الخاصة، التي تؤثر في الوقت
نفسه على بقية النجوم الموجودة في المجرتين. إن ما تحتاجه، باختصار، هو حاسب آلي.
اصطدام المجرات بعضها ببعض حدث درامي جليل، يستغرق مئات الملايين من الأعوام
من بدايته حتى نهايته. وباستخدام المحاكاة الحاسوبية يمكنك بدء عملية اصطدام بين
مجرتين، أو وقفها مؤقتًا، ثم التقاط صور لما سيحدث بعد ١٠ ملايين عام، أو ٥٠ مليون
عام، أو ١٠٠ مليون عام. في كل مرة ستبدو الأمور مختلفة. وحين تدلف إلى أطلس آرب
— مكان تجمع هذه المجرات — ستجد في مكان ما اصطدامًا في مرحلة مبكرة، وآخر في
مرحلة متأخرة، واصطدام خفيف عابر، وآخر مباشر عنيف.
مع أن أولى عمليات المحاكاة الحاسوبية جرت في أوائل الستينيات (ومع أن الفلكي
السويدي إريك هولمبرج أجرى محاولة بارعة في الأربعينيات لإعادة تخليق اصطدام مجري
على سطح طاولة باستخدام الضوء كمكافئ للجاذبية)، فإننا انتظرنا حتى عام ١٩٧٢
لينتج لنا الأخَوان آلار ويوري تومر، اللذان يدرِّسان في معهد ماساتشوستسللتكنولوجيا،
بين مجرتين حلزونيتين. كشفنموذج « مبسط بشكل متعمد » أولصورة مقنعة لاصطدام

اكتشاف المجرات
الشقيقين تومر عن أن قوى المد — أي الاختلافات في الجاذبية من مكان لآخر — مزقت
المجرتين إربًا. وبينما تقترب إحدى المجرتين من الأخرى، تزداد قوة الجاذبية بدرجة
كبيرة عند أطراف الاصطدام، مسببة تمدد المجرتين وتشويههما وإحداهما تمر بجوار
الأخرى أو عبرها. هذا التمدد والتشويه مسئولان عن أغلب الحالات الغريبة المذكورة في
أطلس آرب للمجرات الغريبة.
كيف يمكن أيضًا للمحاكاة الحاسوبية أن تساعدنا على فهم المجرات؟ تميز شوكة
والمجرات الحلزونية التي يظهر بها « العادية » هابل الرنانة بين المجرات الحلزونية
قضيب كثيف من النجوم في مركزها. تبين المحاكاة أن هذا القضيب يمكن أن يكون
ملمحًا انتقاليٍّا، وليس علامة مميزة لنوع مغاير من المجرات. إن راصدي المجرات
القضيبية المعاصرين ربما رصدوا هذه المجرات في مرحلة من حياتها قد تنتهي في
غضون ١٠٠ مليون عام أو نحو ذلك. لكن بما أننا لن نستطيع الانتظار حتى تختفي
هذه القضبان، فسيتحتم علينا مشاهدتها وهي تختفي على الحاسب الآلي، حيث يمكن
أن تمضيمليارات الأعوام في غضون دقائق قليلة.
لقد ثبت أن مجرات آرب الغريبة ما هي إلا قمة جبل جليد لعالم عجيب من أشباه
المجرات، التي بدأ الفلكيون في تمييز أشكالها خلال الستينيات، وبدءوا يفهمونها بعد ذلك
بعقود. لكن قبل الانشغال بحديقة الحيوان المجرية الجديدة هذه، علينا استئناف قصة
التطور الكوني من حيث تركناها. علينا دراسة أصل المجرات جميعها — العادية وشبه
العادية وغير المنتظمة والغريبة وفائقة الغرابة — لنعرف كيف ولدت، وكيف أسعدنا
الحظ بالوجود في موقع هادئ نسبيٍّا في الفضاء، على أطراف مجرة حلزونية عملاقة، على
بعد ٣٠ ألف سنة ضوئية من مركزها وعشرين ألف سنة ضوئية من حافتها الخارجية
المشتتة. وبفضل النظام العام للمجرة الحلزونية، الذي انطبق أولًا على السحب الغازية
التي تولدت عنها النجوم، تتحرك شمسنا في مدار شبه دائري حول مركز مجرة درب
السنة » التبانة، قاطعة كل رحلة خلال ٢٤٠ مليون عام (وهي المدة التي تسمى أحيانًا ب
واليوم، بعد أن قطعت الشمس عشرين رحلة كهذه منذ مولدها، من المفترض .(« الكونية
أن تتمكن من القيام بعشرين رحلة أخرى قبل أن ينتهي أجلها.
تابع القراءة ..


يرسل نيك بوستروم رسالةً مختلطةً مضبوطة بدقة. إن الاحترام الذي يحظى به
كفيلسوف تحليلي لا غبار عليه؛ لذا يأخذ جمهوره ما يقوله بجدية شديدة. يصغي
إليه الباحثون الكبار بانتباه في حين يسجل الصغار ملاحظات كثيرة، لكن الوميض
المتلألئ بعينيه والبريق الذي يعلو ابتسامته المازحة أحيانًا يوضحان أنه يدرك
سخافة موضوعه.
يقدم بوستروم ما يراه على أنه النتيجة المنطقية لاحتمالية احتواء الكون على
العديد من الكائنات التي تفوقنا بقدر هائل من حيث الذكاء والتقنية. وفي ظل
القوة الحاسوبية الضخمة المتاحة لهذه الثقافات يمكنها بسهولة محاكاة التاريخ
الكامل لعمليات التفكير لدى الجنس البشري، وذلك يعني — ثم يتوقف بوستروم
لحظة كي يضمن استحواذه على الانتباه الكامل لجمهوره — أننا نعيش بالتأكيد
في محاكاة حاسوبية.
بوستروم هو واحد من جيل جديد للفلاسفة المنشغلين بشدة بالمعلومات المذهلة
لعلم الفلك الحديث. مع ازدياد احتمالية أن تكون الحياة البيولوجية منتشرة في
أرجاء الكون، وأن يشتمل الكون على تريليونات الأماكن المحتملة للحياة، هم يسألون
عما قد تفعله الكائنات الواعية المتقدمة حقٍّا. وفي ضوء نشأة الكون من حساء
رغوي للزمكان، هم يذهبون إلى التخمين بوجود أكوان افتراضية وموازية. ولكونهم
فلاسفة، فهم يطرحون أسئلة متعمقة عن معنى الأمر برمته، وإلى أي مدى يتصف
ما نسميه بالواقع بأنه حقيقي.
منذ خمسة وعشرين قرنًا شبَّه أفلاطون البشر بساكني الكهوف الذين يتوقون
لفهم الطبيعة، لكنهم محكومون فقط بما يرونه من انعكاسات للظلال على جدار الكهف.


يحب العلماء أن يعتقدوا أنهم يتعاملون مع الحقيقة، لكن هل من الممكن
أن يكونوا مطاردين للظلال لا أكثر؟
مع أن بوستروم اكتسب شهرة سيئة وجذب الاهتمام الإعلامي بسبب فرضية
لاحظ .« الإنساني » المحاكاة التي قدمها، فمن بين أفضل أعماله وأكثرها تفصيلًا المبدأ
العلماء أن عددًا من الخصائص الطبيعية للكون — بدءًا من شدة القوى الأساسية
وحتى معدل التمدد نفسه — مضبوطة تمامًا بحيث تسمح بوجود الكربون والماء
والنجوم والحياة، ولو أن هذه الخصائص مختلفة بقدر طفيف، فربما ظل الكون
موجودًا لكنه لن يكون حيٍّا.
هل أعُِدَّ الكون من أجل الحياة؟ بدلًا من أن يقفز بوستروم إلى تلك النتيجة
المذهلة أخضع أفكاره الإنسانية للصرامة المنطقية والرسمية المميزة له. توصل
بوستروم إلى أننا واقعون تحت تأثير مبدأ الاختيار الذاتي؛ لذا لا بد أن نكون حذرين
من نسب أهمية خاصة لسمات الكون الضرورية لوجودنا، ولو أمكن للكون أن

يتحدث فقد يخاطب البشر قائلًا: لا تمنحوا أنفسكم مثل هذه الأهمية.



(العيشفي الكون المتعدد) 

(1-1) الضبط الدقيق


يهرع إليك عالم فيزياء بحماسة شديدة، بعدها يتوقف ليلتقط أنفاسه ثم ينطق بكلمات
مبعثرة؛ يقول إنه من المذهل لو أن القوة الشديدة التي تمسك بأنوية الذرات كانت أقوى
قليلًا؛ فستحول النجوم آنذاك كل الهيدروجين الموجود بداخلها بسرعة إلى هيليوم وصولًا
إلى الحديد، ولو كانت أضعف قليلًا فلن تتشكل أي نوى معقدة أو كربون، ولو كانت
القوة النووية الضعيفة أقوى قليلًا فقد تتحلل النيوترونات بسرعة شديدة بما يمنع
النجوم من تكوين العناصرالثقيلة، أما لو كانت أضعف قليلًا فقد يجري استهلاك كل
الهيدروجين.
يتوقف عالم الفيزياء برهة كي يلتقط أنفاسه فحسب وأنت تحاول أن تبتعد عنه
تدريجيٍّا بلطف، لكنه لم يفرغ من حديثه بعد. لو كانت القوة الكهرومغناطيسية مختلفة

قليلًا في شدتها فلن تتشكل الجزيئات؛ من ثم ستكون العمليات والظواهر الكيميائية أمرًا مستحيلًا.


ويواصل حديثه وهو يطلب منك أن تفكر بشأن الجاذبية. إن كانت أكثر
قوة قد تعيش النجوم حيوات سريعة مستغرقةً ملايين الأعوام، لا مليارات، وإن كانت
أضعف فلن تشكل النجوم العناصرالثقيلة. ثم يمسك عالم الفيزياء ذراعك بقوة ويقول
لك بإلحاح: في جميع هذه الأحوال سيكون هناك كون له قوانين فيزيائية معقولة، لكن
لن تكون الحياة ممكنة. ويقف العالم واضعًا يديه في وسطه منتظرًا أن تبدي رد فعلك.
هل فاجأك الأمر؟ هل ينبغي أن يفاجئك؟ تقع هذه الأسئلة في صلب جدل قوي
بشأن الضبط الدقيق في مجال الفيزياء، فالفيزياء القياسية ليس بها سوى عدد قليل
من المعاملات والكثير منها ينبغي أن يكون شديد القرب من قيمه التي جرت ملاحظتها
حتى يسمح بوجود العمليات البيولوجية والكائنات أمثالنا. 
تمتد حجج الضبط الدقيق إلى علم الكونيات، فمن الناحية الفيزيائية يمكن للأكوان
المقبولة ظاهريٍّا أن تشتمل على المادة بقدر أكبر أو أقل بكثير من كوننا، لكن لو كان
لدى الكون مادة أقل بكثير كان سيتمدد بسرعة شديدة في المرحلة الأولى، حتى إنه لن
يمكن لأي نجوم أو مجرات أن تتكون من الغاز الذي يفقد حرارته. ولا شك أن الكون
منعدم البنية سيكون خاليًا من الحياة. على الجانب الآخر، لو كان لدى الكون قدر أكبر
بكثير من المادة لكان سيعاود الانهيار منذ وقت طويل دون أن تسنح الفرصة للنجوم
بأن تكون العناصرالثقيلة وأن تأوي العمليات والظواهر البيولوجية، وربما لا يمكن لأي

كون سوى كوننا الكبير طويل العمر أن يدعم المراقبين أمثالنا




يبدو الأمر مدهشًا. ليست هذه الأكوان
هي معقولة من الناحية الفيزيائية. إن مخالفة الحقائق البيولوجية عن طريق تخيل
خنازير يمكنها الطيران ليس بالأمر المفيد فكريٍّا، لأننا ينبغي أن نفكر بطريقة ملتوية
من منظور كل من التطور والبيئة كي نرى كيف يمكن للخنازير أن تطور الأجنحة
والقدرة على الطيران. إنه ليس أمرًا مستحيلًا لكنه ليس ممتعًا للغاية أيضًا. وفي الموقف
المتعلق بدراسة الكون، نحن لم نتخلص من أفكار الفيزياء الجوهرية مثل السببية أو
تحويل المادة إلى طاقة؛ كل ما هناك أننا عدلنا القوى قليلًا ووجدنا أننا حصلنا على أكوان
يستحيل فيها بصورة أساسية وجود الحياة كما نعرفها.
لكن لكي يكون الضبط الدقيق مدهشًا سيكون علينا أن نوضح أن وقوع قيم
الثوابت الفيزيائية ضمن نطاق صغير من قيمها الفعلية هو حدث غير محتمل. ثمة

افتراض بأن الكميات الفيزيائية يمكنها أن تشغل نطاقًا ضخمًا من القيم الافتراضية،


وأن احتمالية أي قيمة متساوية تقريبًا على مدار ذلك النطاق. لكن هذا الافتراض نابع
من العدم.
ليس الأمر مماثلًا تمامًا للضبط الدقيق، لكن مكاننا في الكون لا يدعم مبدأ
كوبرنيكوس أو مبدأ عدم التميز أيضًا، فنحن ندور حول نجم عادي في مجرة عادية لكن
موقفنا يبدو خاصٍّا بطرق أخرى. إن معظم كيانات الكون هي فوتونات أو جسيمات
مادة مظلمة، لكننا نتكون من بروتونات ونيوترونات. ومعظم الكون هو فضاء تام

تقريبًا لكننا نعيش في مجرة، ومعظم كتلة المجموعة الشمسية موجودة في نجم لكننا نعيش على كوكب صخري. وأخيرًا يتميز عمر الكون بأنه هائل، لكننا نعيش بعد مرور
دهور قليلة على الانفجار العظيم. هل هذا مفاجئ أيضًا؟


تابع القراءة ..

لمجرة درب التبانة مليارات من الحكايات، وليس منها ما هو قليل الشأن كي يُغفل.
فكِّر في التالي: حكاية ذرة كربون؛ فبين مليارات النجوم والكواكب المصاحبة لها في
المجرة، تعد ذرات الكربون فريدة تمامًا.
حين تشكلت المجرة من سُحب الغاز المنتشرالدوارة، وبردت مع اتساع الفضاء
منذ الانفجار العظيم، لم يكن لذرتنا مكان وقتها. من النادر ملاحظة الكربون في
كون تملؤه المادة البدائية، ومع ذلك فقد تشكلت ذرتنا في فترة شباب مجرة درب
التبانة، حين اضطلع نجم ضخم بسلسلة من عمليات الاندماج النووي، محولًا ثلاث
نوى من الهيليوم الخامل إلى نواة كربون واحدة مليئة بالوعود.




ذلك النجم ضخم، ويلتهم المادة على نحو مفرط. تتسبب الحركة التي تموج
بها أحشاؤه في إرسال ذرتنا إلى طبقاته الخارجية الأكثر برودة، ثم يطرح النجم في
وقت لاحق من حياته أغلفة وخيوطًا من الغاز في فراغ الفضاء النجمي. تمر مليارات
السنوات، وتشعر الذرة بشدة بطيئة — لكن قوية — نحو منطقة قريبة من الفضاء
يجمع فيها سديم نجمي أولي شتات نفسه. يتشكل نجم صغير أصفر اللون منتفخ؛
تشاهد ذرتنا المشهد من مسافة آمنة. إنها مجرد سخام. وفي رقصة رقيقة للجاذبية
تندمج الذرة في تكوين صخري يبعد عن النجم بمسافة ١٠٠ مليون ميل.




بعد مليارات الأعوام من الحركة المتواصلة داخل المركز النشط للكوكب يحدث
شيء غريب للغاية؛ لفترة قصيرة للغاية — لا تزيد عن ومضة عين في دهور الكون
— تصبح ذرتنا جزءًا من التفاعلات المعقدة للغلاف الحيوي. هذه الذرة هي نحن.
تنقضي اللحظة، وتُدفَن ذرة الكربون مجددًا في صخرة وتُنقل عبر أحزمة
الصهارة في بطء عبر طبقات الكوكب، بعد ذلك تتحرر الذرة حين يقذف بها بعنف
في الهواء من خلال أحد البراكين، وبعد فترة أطول بكثير تصل ذرتنا إلى الغلاف
الجوي وتتحد مع ذرتي أكسجين، وتتسرب إلى الفضاء العميق، وتتحرر أكثر.
يفقد الزمن معناه مع انجراف ذرة الكربون بين النجوم، لكنها في النهاية تشعر
بشدة قوية مألوفة، وتدخل للمرة الثانية في عالم النجوم. هذا النجم أصغر بكثير
من ذلك الذي بث فيها الحياة، وتكون الذرة بمعزل عن التفاعلات التي تستهلك
الجسيمات القريبة، وفي النهاية لا يكون لدى النجم الكثير لإعطائه، ويستقر في
صورته المضغوطة، وتقع ذرتنا الكربونية الجريئة حبيسة المركز المنهار على ذاته.
تدخل ذرتنا في حالة من الراحة، لكن دون الشعور بأي راحة؛ إذ إنها تومض
بالحركة في الشبكية البلورية لقزم أبيض. لن تلين الجاذبية؛ فهذا هو المأوى النهائي
لكل ذرة تجد نفسها في قلب نجم ميت. ستطلق الذرة محتواها الأخير من الحرارة
في الفضاء حتى لا يتبقى لديهاشيء تعطيه سوى الظلام؛ هكذا انتقلت من السخام،
إلى ذرة نابضة بالحياة، إلى ماسة سوداء خالدة.



التقدم في العمر أمر مؤسف. نحن نتحدث عنه على نحو طيب، لكن لا يمكن لأحد أن
يسعد مع ذبول الجسد وضعفه وفقدان المخ لقدراته. ماذا عن مجرتنا؟ هل تمضيمجرة
مثلما حض « تهتاج وتهتاج ضد وفاة الضوء » درب التبانة في هدوء إلى الظلام، أم هل
ديلان توماس والده الواهن؟ أحيانًا تتبع المجرة النهج الأخير، لكنها على وجه العموم
تتبع النهج الأول. تجد مجرة درب التبانة في عقدها السادس من المنظور الشكسبيري
يتحول صوت المرء الذكوري » وتخبو مثلما « عالمًا واسعًا للغاية للجسد النحيل الذابل »
.« القوي ثانية إلى الصوت الطفولي عالي الطبقة
نحن بحاجة إلى تقديم منظور جديد للزمن ونحن نتحدث عن مصير المجرة. تبلغ
المجرة من العمر الآن حوالي ١٢ مليار عام، وقد تتبَّعنا حالها في المستقبل خلال ٤
مليارات عام قادمة تمر فيها بعملية الاندماج مع مجرة المرأة المسلسلة وصولًا إلى مرحلة
النجم الزائف العرضية. ما يحدث بعدها سيمتد على مدار ١٠ تريليونات عام. وإن شُبِّهَ




هذا النطاق الزمني بفترة تمتد عامًا واحدًا، فسيكون قد انقضى من عمر الكون حتى
هذه النقطة ١٠ ساعات فحسب. إننا في سبيلنا لدخول عالم الزمن العميق.
كانت النجوم تخلِّق عناصر الحياة الأساسية — الكربون والنيتروجين والأكسجين
— وتقذف بها بقوة في الفضاء دون أنانية منها لكي تصبح جزءًا من أجيال متتالية من
النجوم والكواكب. إنها فكرة جذابة: وفاة النجم تصنع حياة جديدة. ومع مرور الزمن
تصير مجرتنا وكل المجرات الأخرى أكثر حيوية، ونأمل أن تصير أكثر ذكاءً.
للأسف تعترضالطبيعة على ذلك، فمع تقدم مجرة درب التبانة في العمر، سيوضع
حد لدورة حياة النجوم ووفاتها على نحو يتعذر تغييره، فالنجوم تتكون من الغاز
الوفير الذي احتوى الكون عليه حين كان صغير السن. والآن، بعد حوالي ١٤ مليار عام
من الانفجار العظيم، تجمع معظم الغاز المنتشر بالفعل. تلفظ النجوم المسنة جزءًا من
غازها، وتثري عملية إعادة الاستخدام تلك ذلك الغاز بالعناصر الثقيلة، لكن مع مرور
الدهور يبطئ تدفق الغاز المعاد استخدامه إلى حد هزيل، وعند نقطة ما سيتوقف تمامًا.
إن تطور النجوم أمر منافٍ للمنطق، فمن الظاهر يبدو أن النجم الكبير يجب أن
يدوم فترة أطول من النجم الصغير. في الحقيقة، العكس هو الصحيح، فالنجوم كبيرة
الحجم مبذرة؛ إذ تحرق وقودها خلال وقت قصير للغاية من وقت الكون، في حين تتصف
النجوم الصغيرة بالشح وأنها قادرة على البقاء وقتًا طويلًا للغاية مستندة إلى مخزون
صغير من الهيدروجين. 1 فالنجم الذي تزيد كتلته عشر مرات عن كتلة الشمس يدوم ٢٠
مليون عام، وهو وقت أقل مما استغرقه وجود الحيتان في المحيطات. أما النجم المماثل
للشمس في كتلته فيدوم ١٠ مليارات عام، لكن النجم الذي يقل في كتلته عن عُشر كتلة
الشمس — وهذا هو حجم أصغر كتلة غازية يمكن أن تكون نجمًا — فيمكنه أن يحول
الهيدروجين إلى هيليوم لمدة ١٠ تريليونات عام. إنه نجم مثير للشفقة؛ إذ يكون أقل
عتامة من الشمس بعشرة آلاف مرة. وحتى حين يتوقف تفاعل الاندماج النووي، يتبقى
قدر من الحرارة في ذلك الغاز؛ لذا يستغرق الأمر ١٠٠ تريليون عام كي يفقد القزم
الأحمر حرارته ويصير قزمًا أسود غير مرئي.


شكَّلت المجرات البيضاوية النجوم بفعالية شديدة في وقت مبكر من أعمارها، لذا
نفد غازها منذ وقت طويل؛ من ثم تتقدم في العمر وتصير أكثر احمرارًا على نحو
ثابت، أما في المجرات الحلزونية كمجرة درب التبانة فيعني الانخفاضالنهائي في تشكُّل
النجوم أنه لم يتبقَّ نجوم أخرى ضخمة بما يكفي كي تموت كمستعرات عظمى، وهو ما يخلف النجوم


النيوترونية المظلمة والثقوب السوداء فحسب. لم تعد التغيرات النجمية
العنيفة تغذي الفضاء بالمادة اللازمة لتكوين نجوم جديدة. الأقزام الحمراء هي آخر ما
يتبقى من النجوم. وطيلة تريليونات الأعوام تكد هذه النجوم من أجل بث الضوء من
تفاعلات نووية ضعيفة (بالنسبة للنجم تعد صفة ضعيف صفة نسبية؛ فدرجة حرارة
سطح النجم القزم الأحمر تبلغ مئات الدرجات، في حين تبلغ درجة حرارة جزئه الداخلي
ملايين الدرجات). وحتى النيران المتقدة للأقزام الحمراء ستخمد في جميع أنحاء المجرة
في غضون ١٠ تريليونات عام.



يُعفى الثقب الأسود المركزي الهائل جزئيٍّا من هذا الجمود النجمي، فمع استنفاد
الغاز لا يمكن للثقب أن يتغذى على الطعام الذي يجعله يضيء بسطوع. لقد انتهت
مرحلة النجم الزائف، لكن لا يزال بمقدور هذا المصدر الهائل للجاذبية أن يجذب النجوم
التي تحملها مداراتها لمسافة قريبة منه (لن يكون أحفادنا في خطر؛ فالثقب الأسود
الموجود في مركز المجرة بعيد للغاية بما يمنعه من التأثير على المجموعة الشمسية).
يواصل الثقب الأسود التغذي على النجوم في صورة وجبات خفيفة، وفي كل مرة يدخل
فيها نجم إلى أفق الحدث يرى الراصد من بعد وميضًا من الضوء.



هذه هي نهاية عصر النجوم. الأمر يبدو كما لو أن مجرة درب التبانة مثبت
بها مفتاح إعتام كبير، والطبيعة تقلل طاقتها ببطء شديد. ولأن مجرتنا ليست مميزة،
فالشيء نفسه سوف يحدث في كل مجرة من المجرات الأخرى في الكون البالغ عددها ٥٠
مليار مجرة. والاستثناءات الوحيدة لقاعدة الضوء المتناقص ستكون المجرات الموجودة
في عناقيد غنية، حيث يمكن لعمليات الاندماج وحركة الجاذبية أن يبقيا على عملية
تشكل النجوم مستمرة فترة أطول قليلًا. وفي النهاية، حتى العناقيد المجرية ستتحول إلى
مجرات فائقة شاسعة تحوي نجومًا ميتة وأخرى تحتضر.




لندخل عصرالجثث النجمية. لقد فقد الكون ضياءه. يكشف مخزون البقايا المتوقعة عن
وجود أعداد متساوية تقريبًا من الأقزام البنية والأقزام البيضاء وعدد ضئيل من النجوم
النيوترونية والثقوب السوداء لا يشكل سوى أعشار قليلة من الواحد بالمائة. 2
بقايا النجوم الضخمة مظلمة. لا شيء يفر من أفق حدث الثقوب السوداء، والنجم
النيوتروني يماثل نواة ذرية تحوي ما يعادل ٥٧١٠ جسيم، وتتكدس نيوتروناته فيه





بإحكام مثلما يوضع البيض في صندوق. تحوي نسبة صغيرة من النجوم النيوترونية
بقعًا ساخنة على أسطحها تولد حزمًا من الأشعة الكهرومغناطيسية. تدور النجوم حول
نفسها، وحين يمر الشعاع المنبعث منها بمسار الأرض نرى نجمًا نابضًا. ولأنه ليس
معلومًا بالضبط كيف تولد صور انعدام التناسق في قشرة النجم النيوتروني موجات
الأشعة الكهرومغناطيسية، لا نستطيع التنبؤ بالوقت الذي ستعيشه النجوم النابضة.
كانت نصف الجثث في وقت من الأوقات نجومًا ضخمة بما يكفي لدمج الهيدروجين
إلى الهيليوم، كالشمس. تعاني هذه النجوم سلسلة من التشنجات والانقباضات، وتنهي
حياتها كأقزام بيضاء. والأقزام البيضاء هي جمرات نجمية لكن مادتها الغنية بالكربون
أكثر كثافة بكثير من الرماد؛ فهي بلورية تشبه شكلًا غريبًا من الماس. في البداية تكون
الجمرات شديدة السخونة لكنها تبرد بسرعة. يحتاج القزم الأبيض إلى ١٠٠ مليون عام
فحسب كي يبرد من درجة حرارة ١٠٠ ألف درجة مئوية ( ١٨٠ ألف درجة فهرنهايت)
إلى ٢٠ ألف درجة مئوية ( ٣٦ ألف درجة فهرنهايت)، لكنه بعد ذلك يستغرق ٨٠٠
مليون عام لكي يبرد إلى ١٠ آلاف درجة مئوية ( ١٨ ألف درجة فهرنهايت). بعد ذلك
يستغرق ٥ مليارات عام كي يصل إلى درجة حرارة سطح الشمس التي تبلغ ٥٥٠٠
درجة مئوية ( ٩٩٠٠ درجة فهرنهايت). بعد ذلك يبهت القزم الأبيضباستمرار ويتدرج
طيفه الضوئي من الأصفر إلى البرتقالي ثم إلى الوردي، ليصطبغ في النهاية بلون أحمر
داكن باهت. بعد تريليونات الأعوام يصير غير مرئي، ولا يتوهج إلا بأطوال موجية غير

لا تمر الجثث الأخرى بطور من السخونة أبدًا،
 فسحب الغاز التي تنهار لتشكلأجرامًا تقل في كتلتها عن عُشر كتلة الشمس لا يمكنها أن تضيء عتمة الليل. لا تستشعر
هذه النجوم عظمة تحول العناصرأبدًا، فهذه النجوم غير المكتملة تبعث ضوءًا باهتًا غير
والأقزام البنية هي .« الأقزام البنية » مميز يميل إلى اللون الأحمر؛ من ثم أطلق عليها اسم
شكل أكبر حجمًا من الكواكب العملاقة، والكواكب العملاقة كالمشتري وزحل تتوهج هي
الأخرى بالأشعة تحت الحمراء على نحو باهت. ومع مرور الدهور، سوف تلفظ الأقزام
البنية حرارتها الفاترة في الفراغ البارد للفضاء، وسوف تتلاشى ببطء لتتحول إلى اللون

حتى مع تقدم النجوم في العمر وتناقصضوئها تظل الجاذبية هي محرك نشاطها.
حين كانت النجوم صغيرة كانت الجاذبية أشبه بالكيميائي المتحمس المنهمك في تشكيل العناصروملء بيانات الجدول
 الدوري والعمل على توهج السماء بالنفايات المعقدة، أما
حين تتقدم النجوم في العمر فالجاذبية تتحول إلى ملزمة تضغط الغاز برفق، وتحتال
على العيش بقذف الطاقة في الفضاء. لا تزال مجرة درب التبانة خشبة مسرح مهيبة،
لكن لم تعد تشهد مولد النجوم، والنجوم الباقية ضعيفة خاملة.




تابع القراءة ..

سالي باليوناس هي الطبيبة المختصة بمتابعة حالة الشمس. هي تعلم أنه حين
المغناطيسي « التنفس » تعطس الشمس تعتل الأرض، وهي تقيس نبض الضوء و
للشمس، وتدرس تأثيراتها على كوكبنا، التي كثيرًا ما تكون لطيفة وأحيانًا تكون
عميقةً. في القرن السابع عشر، أصيبت الأرض بنزلة برد شديدة، أطلق على هذا
إذ انخفضت درجات الحرارة في أوروبا ؛« العصر الجليدي الصغير » العصر اسم
بشدة، حتى إن الهولنديين كانوا يتزلجون على القنوات طوال فصل الصيف، وظل
الاسكتلنديون مغمورين بالثلج طوال العام. شهد ذلك العصرأيضًا خمولًا شمسيٍّا،
دورة البقع « نسي » واختل المجال المغناطيسي للشمس بدرجة كبيرة، حتى إنه
الشمسية المنوط بها.



اكتشفت سالي باليوناسالجرثوم الفلكي عام ١٩٧٧ ، حين كانت طالبة دراسات
في جنوب كاليفورنيا. في أول ليلة قضتها « جبل ويلسون » عليا تعمل في مرصد
في الرصد حطمت صاعقة برق شجرة قريبة وفجرت كل نوافذ المبنى؛ لذا عدَّت
ذلك نذير شؤم. كانت سالي أحد أفراد فريق عمل مكون من متطوعين وعلماء فلك
محترفين، وهو الفريق الذي أنقذ التليسكوب البالغ قطر مرآته ٢٫٥ متر ( ١٠٠
بوصة)، الذي كان عملاقًا في زمانه، حتى إن إدوين هابل استخدمه لقياس حجم
الكون وتمدده، من الإغلاق الوشيك. عاد التليسكوب القديم الضخم للعمل مجددًا،
وهو يستخدم في كل ليلة صافية من أجل إجراء الأبحاث، وسالي باليوناس هي
مديرة الموقع.

إن مراقبة الشمسوانتظار تقدمها في العمر أسوأ من مراقبة الطلاء وهو يجف؛
لذا تدرس سالي باليوناس النجوم المماثلة للشمس في مراحل تطورها المختلفة كي تجمع أجزاء قصة تقدم الشمس في العمر.

هذا يتيح لها فرصة استخدام عينة كبيرة
لتتبع التغيرات التي تستغرق وقتًا أطول بكثير من حياة أي إنسان.
صارت سالي باليوناس محل انتباه الرأي العام، لكن على نحو غير مريح
لكل من يحب النظر إلى العلماء بوصفهم أشخاصًا يتصفون بالنزاهة والموضوعية
وينأون بأنفسهم عن الجدال السياسي. ترى سالي أن التغيرات المناخية ناتجة عن
الشمس لا عن النشاط البشري؛ وقد عارضت اتفاقية كيوتو ونتائج اللجنة الدولية
المعنية بتغير المناخ. هي شخصمفضل من جانب بيوت الخبرة المحافظة، وحظيت
ومعهد البترول الأمريكي. « إكسون موبيل » بتمويل لأبحاثها من شركة
قد يكون النظر إليها كدُمية تحركها الشركات وتسبح ضد تيار الأدلة الغامر
عن التغير المناخي أمرًا مغريًا، لكن سالي تجسد بعض الأسئلة المثيرة للاهتمام عن
العلم: إلى أي مدى يتأثر العلماء بالأيديولوجيات السياسية حين يفسرون البيانات؟
أليس تعرُّضالتفسيرات السائدة للتشكيك فيها ظاهرةً صحيةً؟ ماذا لو كان هناك
عدة آليات تساهم في التغير المناخي؟ وإذا لم نلم بكل ما يؤثر على كوكبنا أو
شمسنا؛ أي كل ما يمد المحيط الحيوي بالطاقة ويحافظ على جميع أشكال الحياة
على الأرض، ألا نخاطر بذلك بالتغاضي عن القضية الأساسية والتمسك بقضايا
فرعية؟




في
خيالية للفلاسفة وعلماء الفلك المهووسين بالسماء. كانوا يخشون أن يُغطى وجه الشمس
بالبقع على نحو متزايد يحول دون وصول الحرارة والضوء الكافيين إلى العالم. وحين
يقابل سكان جزيرة لابوتا شخصًا ما في وقت مبكر من اليوم لا يسألونه عن حاله، بل
هذا الصباح؟ « الشمس » يسألونه: كيف بدت
منذ ألفي عام، لاحظ فلكيو البلاط الإمبراطوري الصينيون الشوائب الموجودة على
وجه الشمس وتتبعوها. وفي جميع الثقافات التي اعتمد فيها التنبؤ بحالة الطقس على التغيرات الموسمية والشعبية كانت أي صلة واضحة بين شكل الشمس أو سلوكها والمناخ
أمرًا ذا أهمية عملية شديدة. وفي عام ١٨٠١ أعلن سير ويليام هيرشل عن اكتشافه وجود
علاقة بين عدد البقع الشمسية وسعر بوشل القمح؛ فحين كانت البقع الشمسية نادرة،
كان سعر القمح مرتفعًا دائمًا. وقد ذهب إلى أن وجود عدد أقل من البقع على الشمس
يعني نقصًا في الإشعاع المنبعث؛ مما يؤدي إلى ظروف نمو أسوأ، وانخفاض للإنتاج
الزراعي، وأسعار أكثر ارتفاعًا وفق قانون العرضوالطلب الذي لا يرحم.


بعد مائتي عام لا تزال الشمس تُحير العلماء، الذين يحاولون استيعاب تأثيراتها
على الأرض. يبلغ إجمالي الطاقة التي تصل إلى أعلى الغلاف الجوي ١٣٦٦ واطًا لكل
متر مربع، وكأن مصباحًا ضوئيٍّا مسلطًا لكل مساحة تماثل في حجمها قطعة الورق.
على مدار الدورة الشمسية التي مدتها ١١ عامًا — وذلك وفق أدق قياساتنا — يتفاوت
الناتج الشمسي بنسبة ٠٫١ ٪ فحسب. ذلك أداء متسق للغاية، وسيكون من الشاق عليك
أن تلاحظ التباين في مصباح ضوئي تغيرت طاقته من ٩٩٫٩ واطًا إلى ١٠٠٫١ واط.
وهذا لن يغير درجة الحرارة إلا بمقدار ٠٫٠٥ مئوية ( ٠٫٠٩ فهرنهايت)، لكن نماذج
المناخ غير مؤكدة بدرجة كبيرة، وتتنبأ الصور المختلفة منها بأن الشمس يمكن أن تكون
السبب وراء نسبة تتراوح من ١٠ إلى ٣٠ ٪ من الاحترار العالمي الذي وقع حديثًا.





تخفي تفاوتات الضوء المتواضعة حقيقة أكثر عمقًا: إن الشمس مولد للطاقة، بكل
معنى الكلمة؛ فالبقع الشمسية هي مساحات ذات درجة حرارة سطح منخفضة تشهد
تركيزًا قويٍّا للمجالات المغناطيسية. ينعكس اتجاه المجال المغناطيسي للشمس بأكمله مع
كل ذروة في دورة البقع الشمسية، ومع أن الإشعاع ذا الطول الموجي القصير لا يمثل
سوى نسبة يسيرة من إجمالي الناتج الشمسي، فإنه يتباين بصورة مثيرة، مخلفًا آثارًا
معقدة وعميقة على مناخ الأرض وغلافها الجوي. وعلى مدار الدورة الشمسية يتفاوت
مقدار الأشعة فوق البنفسجية أكثر من تفاوت الضوء المرئي بنحو ١٥ ضعفًا، ولهذه
الفوتونات المحملة بالطاقة تأثير بالغ على طبقة الأوزون.

إن التأثيرات الثانوية المرتبطة بالبقع الشمسية هائلة؛ إذ تقذف الشمس من
سطحها بحلقات من البلازما أكبر في حجمها من الأرض، وبهذا تصل بين خطوط المجال
المغناطيسي؛ مما يحرر طاقة تعادل مليار قنبلة ذرية، ويحدث تدفق هائل للغاز من
عند وقوع مثل هذا الوهج .« الانبعاثات الكتلية الإكليلية » سطح الشمس يطلق عليه اسم
الشمسي يتحتم على رواد الفضاء على متن المحطات الفضائية أن يحتشدوا في مساحة واقية لتجنب تلف الخلايا.
وحين تحدث الانبعاثات الكتلية الإكليلية يتبقى لنا عدة أيام
كي نستعد للهجوم الذي سوف يُشن على الأقمار الصناعية ونظم الطاقة لدينا. تسبب
الانبعاثات المعتدلة ظاهرة الشفق القطبي ذات الشكل الأخاذ، أما الانبعاثات الأكثر حدة
فتتسبب في أضرار بشبكة الطاقة الكهربائية تقدر بمليارات الدولارات.


ما لم تكن في الفضاء، فلن يهدد أي شكل من هذا السلوك حياتك، لكن هذا العنف
يذكرنا بأن الشمس ليست مجرد نجم مستقر باهت. أطلق وهج شمسي — يقع بهذه
الشدة مرة كل ألف عام — حدث عام ١٨٥٩ شفقًا قطبيٍّا شديد السطوع، حتى إن
قاطني إنجلترا كانوا يستطيعون القراءة في ضوئه، وكان شديد الانتشار، حتى إنه شوهد
« توهجات عظمى » في جزر الباهاما وهاواي. وتمر بعض النجوم المماثلة للشمس ب
تحمل من الطاقة ما يزيد على ١٠ إلى ١٠٠ مليون مرة عن أقوى وهج جرى رصده على
الشمس، ومن شأنها أن تدمر طبقة الأوزون على نحو شبه مؤكد، ومن ثم تتسبب في
خلل السلسلة الغذائية. ومن حسن حظنا لا يبدو أنها تحدث إلا عندما يتشابك المجال
المغناطيسي لكوكب عملاق موجود في مدار قريب مع النجم، وليس لكوكب عطارد صغير
الحجم أي مجال مغناطيسي.



وكأن  « العيش مع نجم » جمعت وكالة ناسا برامجها الشمسية تحت مسمى
مرصد الشمس ) « سوهو » أمامنا اختيار). البعثة الفضائية الرئيسية هي القمر الصناعي
وغلافها). غيَّر هذا القمر الصناعي عظيم الشأن من رؤيتنا للغلاف الداخلي والخارجي
اكتشف ما يزيد عن ألف مذنب شديد « فراغه » للشمس والرياح الشمسية. وأثناء وقت
من خلال ستة « الشبكة العالمية لمراقبة نبضات الشمس » القرب من الشمس. تعمل
أجهزة تصوير شمسي موزعة في جميع أنحاء الكرة الأرضية تراقب الشمس على نحو
مستمر، وتصدر تحذيرًا حال حدوث شيء. إن الكشف عن السمات الظاهرية يعطي
صورة مفصلة للجزء الداخلي من الشمس.
تستخدم أجهزةُ إعداد النماذج الشمسية أجهزةَ كمبيوتر قوية لتحويل البيانات إلى
رؤية ثلاثية الأبعاد للشمس، وباستطاعتها أن تتنبأ بالانبعاثات الكتلية الإكليلية؛ حين
تلتوي خطوط المجال المغناطيسي بشدة، حتى إنها تنقطع كشريط مطاطي، وتقذف
بمليارات الأطنان من البلازما تجاه الأرض بسرعة مليون ميل في الساعة. وكانت هذه
الأجهزة دقيقة في تنبئها بشكل هالة الشمس أثناء الكسوف الكلي للشمس في مارس عام
.٢٠٠٦

تتجلى القوة المذهلة للشمس وأهميتها المحورية لوجودنا على نحو شديد الوضوح
بالكسوف مثل بعضزملائي، « المهووسين » أثناء الكسوف الشمسي. ومع أنني لست من
فقد حالفني الحظ بأن أرى الكسوف الكلي للشمس عدة مرات. وهو مبهر للغاية حين
يحدث على الماء. حين كنت بالقرب من الجسر، وأنا على متن سفينة سياحية قريبة من
باجا بكاليفورنيا عام ١٩٩١ ، شاهدت الظل يمرق عبر المياه الممتدة متجهًا نحونا، وخيم
بعدها الصمت والذهول على مئات المشاهدين. وعند الظهيرة في تلك المنطقة المدارية،
بدا الأمر وكأن قبضة يد اخترقت السماء محدثة ثقبًا أسود فوقنا. وفي عام ٢٠٠٦
كنت قبالة ساحل تركيا على متن سفينة تبحر بهدف العثور على فرجة بين السحب
لمشاهدة الكسوف. كنا على بعد مائة ميل من موقع كسوف شهير وقع عام ٥٨٥ قبل
الميلاد، حين كتب هيرودوت أن قبيلتين متحاربتين، الميديين والليديين، أصابهما الذعر
والارتباك حين أظلمت السماء. وضعت القبيلتان أسلحتهما وسط المعركة وأعلنتا السلام.
كنت أشاهد باستمتاع والمشاهدون يحتشدون على جانب السفينة، ويدفع بعضهم بعضًا
للتمتع برؤية أفضل، على الرغم من أنه لم يكن أحد جانبي السفينة أقرب إلى الشمس
المظلمة من الآخر.


أكثر عتامةً عند غياب البقع الشمسية، ومع ذلك فالقصة الكاملة أكثر تعقيدًا؛ لأن الشمس
الخالية من البقع ستخفض درجات الحرارة بمقدار ٠٫٥ درجة مئوية فحسب (درجة
واحدة فهرنهايت)، وهو أقل مما مرت به أوروبا. علاوة على ذلك، كان العصر الجليدي
الصغير مقصورًا على نصف الكرة الشمالي، وبدأ في وقت مبكر يرجع إلى القرن الثالث
. عشر، مع وصول درجات الحرارة إلى أقل معدلاتها في الأعوام ١٦٥٠ و ١٧٧٠ و ١٨٥٠
لعب النشاط البركاني المتزايد دورًا في هذا الأمر، وربما أسهم في الأمر أيضًا توقف ظاهرة
التي تسمح لأوروبا بأن تستمتع بدفء تيار الخليج. « سير المحيط المتحرك العظيم »
على مدار مقاييس زمنية أطول، كانت التغيرات في مخرجات الشمس مهمةً، لكن
تعين قياسها بصورة غير مباشرة قبل عصر التليسكوبات. يعتبر الكربون ١٤ المشع
وسيلة قياس ممتازة؛ إذ يتكون حين تنهمر الأشعة الكونية من الفضاء على الأكسجين
في الطبقة العلوية من الغلاف الجوي، ثم يُدمج في حلقات الأشجار. ثمة عنصرآخر هو
البريليوم ١٠ الذي يمكن قياسه في طبقات الجليد القطبية. يحمي المجال المغناطيسي
الشمسي الأرض من الأشعة الكونية؛ لذا حين يكون النشاط الشمسي والبقع الشمسية
منخفضين يتكون كم أكبر من الكربون ١٤ والبريليوم ١٠ ويترسب، وينخفضتركيزهما
حين يكون النشاط الشمسي مرتفعًا. وكلا العنصرين يؤكد حدوث فترة غياب البقع
الشمسية ويوضح أن النشاط الشمسي على مدار الأعوام السبعين الماضية مرتفع بنفس
المقدار الذي كان عليه على مدار الثمانية آلاف عام الماضية. ليست تبعات تغير النشاط
الشمسي على المناخ واضحة لأن الاقتران غير مباشر ومعقد.
تعد فترة العشرة آلاف عام قطرة في بحر الزمن الجيولوجي، وقد كانت العشرة آلاف
عام الماضية فترة دافئة أطلق عليها اسم الهولوسين، وهي الفترة التي تبعت ذروة العصر
الجليدي الأخير منذ ٢٠ ألف عام. تقدم لنا الطبقات الرسوبية والجليدية القديمة سجلٍّا
شهدت المليون عام الأخيرة تحديدًا - كاملًا للتغيرات على مدار ٥ ملايين عام 
تغيرات مفاجئة في المناخ، مع تفاوت فاق ١٠ درجات مئوية ( ١٨ درجة فهرنهايت)
وهو ما يزيد عن المقدار الذي نقلق أن يتسبب به الاحترار العالمي الحالي الذي يتسبب به
البشر.
الشمس مسئولة جزئيٍّا عن هذه التغيرات، وذلك بطريقة دقيقة ترتبط بالتغيرات
في مدار الأرض، فمنذ مائة عام خمن عالم الرياضيات الصربي ميلوتين ميلانكوفيتش
أن العصور الجليدية نتجت عن مجموعة من التغيرات الدورية: التغير الذي يحدث كل ١٠٠ عام في الدرجة
 التي ينحرف بها مدار الأرضحول الشمس عن إحدى الدوائر،
والتغير الذي يحدث كل ٤١ ألف عام في ميل محور الأرض بالنسبة للشمس، والتواء
محور دوران الأرض الذي يحدث كل ٢٣ ألف عام مع الدوران السريع للكوكب حول
نفسه. كل هذه التأثيرات تغير قدر الإشعاع الذي يتلقاه كل مكان بعينه على السطح.
وتجتمع الإيقاعات الكونية المتكررة لتوجد نمطًا معقدًا من البرودة والتدفئة.
وكما هو الحال مع جميع التغيرات المناخية، تلعب عوامل أخرى دورًا، مثل النشاط
البركاني والارتطامات ودوران المحيطات؛ لأن العصور الجليدية ليست منتظمة على نحو
ما تتنبأ به نظرية ميلانكوفيتش، وقد كانت الدورة التي تحدث كل ١٠٠ ألف عام هي
الأقوى على مدار المليون عام الماضية في حين تذهب النظرية إلى أنها يجب أن تكون الأضعف.
 لكن بصرف النظر عن الآلية، لم يكن أسلافنا الذين عاشوا على امتداد ملايين
السنوات القليلة الماضية ليقلقوا بشأن ارتفاع طفيف في درجة حرارة العالم.



















تابع القراءة ..

ليس في هذه الصخرة ما يغري بالنظر إليها؛ فهي تكوين رسوبي حُبيبي الملمس
ذو لون رمادي باهت، ولا تزيد في حجمها عن ثمرة البطاطس. هي واحدة من آلاف
الصخور التي تتحرر من نطاق الجاذبية الضعيف لكوكب المريخ حين يصطدم أحد
الأحجار النيزكية بالبحر المالح لسهل مريدياني بلانوم. تحتوي هذه الصخرة على
عينات من الحصائر الميكروبية الكثيفة التي تغطي سطح البحر الضحل، شأنها في
ذلك شأن العديد من الصخور التي قذف بها الاصطدام. سرعان ما يتناثر الحطام
في الفضاء بين الكواكب بعد تشكل المجموعة الشمسية وتصير الاصطدامات شائعة.
يمر الوقت، وتنطلق معظم الصخور التي قذفها المريخ في الفضاء العميق بلا
حدود. هذه الصخرة مميزة؛ لأن مسارها تقاطع في الزمان والمكان المناسبين مع
كوكب الأرضبعد أن دار في مداره مليون مرة. تسقط الصخرة من سماء زرقاء على
كوكب مجدب. لقد عمَّ الدمار كوكب الأرض بفعل سلسلة الارتطامات الهائلة التي
أدت إلى تبخر المحيطات وذوبان السطح الصخري؛ مما أدى إلى فناء الميكروبات
البدائية التي تشكلت في دهر الهاديان الذي مر به الكوكب.
ترتفع حرارة الصخرة مع دخولها الغلاف الجوي السميك، لكن مركزها يظل
باردًا. بعد مرور سنوات على هبوطها، يؤدي تعرضها للتجمد وذوبان الجليد على
نحو متناوب إلى تفتتها، ويذيب المطر بعض مكوناتها الداخلية ويرسب مادتها في
بركة ضحلة، حينئذ تزوَّد الميكروبات بالمياه، وتعود إلى الحياة مرة أخرى. ومع أن
المواد الكيميائية للموطن الجديد المحيط تشكل بيئة مثيرة للتحدي لتلك الميكروبات،
فبعد آلاف الأجيال من التكيف تزدهر هذه الميكروبات وتنتشرفي العديد من المكامن
البيئية الجديدة.


يتباين مسارا الكوكب الأم والكوكب المتبني للصخرة، فكوكب المريخ ليس ذا
جاذبية كافية تتيح له الاحتفاظ بغلاف جوي سميك أو تحريك التكتونيات؛ لذا
يتعرض الكوكب للجفاف ويصير صحراء قارصة البرودة. أما كوكب الأرض فله
غلاف جوي سميك يموج بنتاج عملية التمثيل الضوئي، ومع الوقت، تبزغ شجرة
الحياة ذات التنوع البيولوجي شديد التعقيد.


بعد أن تجتاز الأرض مدارها مرات ومرات عديدة، تنطلق أربعة من الكائنات
الحية كبيرة الحجم لكوكب الأرضفي الفضاء. هي لا تنتقل في صخرة، بل في حاوية
معدنية تحوي عالمًا مصغرًا يماثل الغلاف الجوي للكوكب. وفي حين تطل هذه
الكائنات بناظريها بشغف عبر نافذة صغيرة، يلوح المريخ في الأفق. وفيما بعد،
وعلى سطح المريخ، تعمل هذه الكائنات متسلحة بهدف، وتتحرك بيسر في الجاذبية
الرقيقة. إنها بعيدة للغاية عن الوطن، لكنها عادت إلى الوطن أيضًا.



تطرقنا حتى الآن للنهايات في إطار سياق ثلاثة عوالم مألوفة ومتداخلة: الكائن البشري،
والأنواع البشرية، والمحيط الحيوي الذي يضم كل البشر. الآن نخطو خارج عالم المألوف
لننتقل إلى العالم الكوني غير المألوف.
ثمة سبب يدفعنا لتدبر الكيفية التي ستنتهي عليها حياتنا، وهي وفاة مليارات
الأشخاص على مر التاريخ، وعلى نحو مماثل ثمة سبب يدفعنا لتدبر الكيفية التي
سينتهي عليها نوعنا؛ أن كل الأنواع قد تعرضت لآلية الانتخاب الطبيعي. لكن في حالة
المحيط الحيوي وكوكب الأرض نحن نواجه مشكلة تتمثل في وجود مثال واحد فقط
يمكننا دراسته والتعلم منه. وللاهتداء إلى الكيفية التي سينتهي بها العالم، نحتاج إلى
إيجاد أمثلة أخرى لكواكب حية تماثل كوكب الأرض. ودون توافر معلومات إضافية، ثمة
طريقتان مختلفتان لتفسير حقيقة أننا كائنات ذكية تعيش على كوكب معمر يستضيف
حياة وافرة.
ربما يكون كوكب الأرض حالة نادرة. أثار بيتر وارد ودون براونلي، من جامعة
مناقشات « الأرض النادرة » واشنطن، بكتابهما الشهير الذي طُرح عام ٢٠٠٠ بعنوا


حامية في الدوائر الأكاديمية وما وراءها. يتفق المؤلفان مع معظم العلماء على أن نطاق
كائنات البيئات القاسية على كوكب الأرض يشير ضمنيٍّا إلى أن الحياة الميكروبية قد
تكون شائعةً إلى حدٍّ ما على الكواكب الأرضية خارج المجموعة الشمسية، لكنهما يميزان
التي يمكن تعريفها على أنها مخلوقات ؛« المعقدة » بشدة بين الحياة من أي نوع والحياة
كبيرة تتمتع بالذكاء. ليس من الضروري أن تتسلح هذه الكائنات بالتكنولوجيا، وليس
من الضروري أن تكون بشرًا أو رئيسيات، لكنها مخلوقات كبيرة معقدة متعددة الخلايا
تحوي عقولًا أو شيئًا مماثلًا.


يرى وارد وبراونلي أن تطور الحياة المعقدة يحتاج إلى بيئة مستقرة معمرة
ومجموعة من الظروف الخاصة إلى حد ما. هذه الظروف تشمل وجود مدار مستدير
مواتية في مجرة درب التبانة، وكوكب « هادئة » تقريبًا حول نجم معمر كالشمس، وبيئة
عملاق كالمشتري لتوفير الحماية ضد الارتطامات، وقمر كبير لتحقيق استقرار المدار،
وقدر كافٍ من الماء، وتكتونيات الصفائح. من العسير للغاية تحقيق كل هذه الشروط،
على افتراضأن هذه العوامل تتسم بصفتين متناقضتين؛ « الأرضالنادرة » وترتكز حجة
أنها غير محتملة الوجود، وأنهاضرورية لتطور حياة معقدة.
خلال العقد الماضي تبين لنا أن الكثير من هذه الشروط ليس ضروريٍّا. على سبيل
المثال، تُظهر عمليات المحاكاة أن توافر الماء ووجود تكتونيات الصفائح سيكونان من
السمات الطبيعية للكواكب الصخرية التي تبعد عن نجومها مسافات تماثل المسافة بين
الأرض والشمس. أيضًا تُظهر هذه العمليات أن وجود كوكب ضخم كالمشتري يمكن أن
يتسبب في عدد كبير من الارتطامات الهائلة بقدر ما يحول دونها. والأهم من ذلك أنه لم
لتطور « ضروري » يثبت بعد — وربما من المستحيل أن يثبت — أن أيٍّا من هذه السمات
حياة معقدة. لقد رأينا بالفعل أن الحياة والبيئة يوجدان على نحو تكافلي؛ لذا سيكون
استخدام صفات البيئة المادية للزعم بعدم احتمالية نتيجة معينة منطقًا مغلوطًا. كل
ذلك يوجهنا إلى الاتجاه المعاكس.



قد لا تكون الأرض نادرةً. لقد عمل علم الفلك بنجاح في ضوء مبدأ كوبرنيكوس،
طيلة السنوات الأربعمائة الماضية. لكن هذا المبدأ أشبه بتخمين ،« مبدأ عدم التميز » أو
قائم على الاستكشاف أو على بعض المعلومات منه بنظرية رسمية. فمع كل لحظة، ومع
اكتسابنا لمزيد من المعارف عن الكون، نجد أننا لسنا متميزين أو متفردين. ما من شيء
فريد أو مميز بشأن مجرة درب التبانة وموقعنا داخلها والنجم الذي ندور حوله.


لقد خُلِّقت المكونات الأساسية للحياة — الكربون والماء — ووزعت في كل الأماكن بلا استثناء.
ويجري اكتشاف الكواكب خارج المجموعة الشمسية بصورة أسبوعية تقريبًا؛ إذ يسجل
التعداد الحالي ٤٠٠ كوكب تقريبًا، وسرعان ما سنكتشف كواكب مماثلة للأرض. 1
فكر في الكواكب على أنها حبيبات من الرمل. في رقعة من الشاطئ تبلغ مساحتها
مترًا مربعًا، وبافتراضأن الرمل يمتد فيها بعمق متر واحد، يصل عدد حبيبات الرمل إلى
حوالي ١٠ مليار حبة رمل. لو تجاهلنا الكواكب العملاقة الغازية وأقمارها، يكون ذلك
التقييم مقبولًا ظاهريٍّا لعدد الكواكب الأرضية في مجرة درب التبانة. الآن لنتخيل أننا
سنفحص كل حبة رمل في ذلك المتر المكعب. في ضوء سيناريو كوكب الأرض النادر، قد
يكون من غير المرجح للغاية أن تقابل أي حبة رمل يمكن العيش عليها كما هو ممكن
على حبة رملنا. لكن إذا لم يكن هناك شيء مميز بشأننا، فقد تحتوي المساحة البالغة
مترًا مكعبًا على آلاف أو حتى ملايين الكواكب المماثلة لكوكب الأرض.



تشمل فرضية كوكب الأرض النادر عامل الوقت؛ إذ استغرق انتقال الكائنات من
1). ليست - المادة البدائية اللزجة إلى الحضارة ٤ مليارات عام على هذا الكوكب (الشكل 7
فترات التطور المتواصل الطويلة أمرًا ممكنًا في العديد من المناطق في المجرة وحول العديد
من النجوم الهائلة. كيف يمكننا أن نقرر أن الوقت الذي استغرقه تطور حياة معقدة
على سطح الأرضيجعل تطورها في أي مكان آخر أمرًا مرجحًا أو غير مرجح؟
يرى ريتشارد جوت، عالم الفيزياء الفلكية بجامعة برنستون، أن حجة مبدأ
كوبرنيكوس يمكن تطبيقها على المواقف التي لا يتاح لديك فيها سوى عينة واحدة، ما
دام ليس هناك أي سبب للاعتقاد بأنك ترصد الموقف في وقت خاص. والمنطق هنا شديد
البساطة، لدرجة قد تستعصي على التصديق؛ فاحتمالية رصد الشيء في منتصف فترة
وجوده أكبر من احتمالية رصده عند بدايته أو نهايته. ونسبة احتمالية رصد الشيء في
منتصف فترة وجوده تبلغ ٥٠ ٪ في حين تبلغ احتمالية رصده في الفترة الممتدة ما بين
انقضاء ٢٫٥ ٪ من عمره وقبل ٢٫٥ ٪ من نهايته ٩٥ ٪، وهذا ينطبق على أي موقف رصد.
طبق جوت هذا التفكير على قادة العالم وعلى الكلاب وعلى المسرحيات الموسيقية
المعروضة في برودواي، لكن دعنا نستخدم مثاله عن البشرية. نحن موجودون منذ حوالي
٢٠٠ ألف عام. ووفق الحجة الزمنية لمبدأ كوبرنيكوس، من غير المحتمل أن يمثل عدد
الأعوام البالغ ٢٠٠ ألف عام نسبتي ال ٢٫٥ ٪ الأولى أو الأخيرة من نطاق الوجود الكامل
للبشرية. وفي ظل نسبة احتمالية تبلغ ٩٥ ٪ سيظل الجنس البشري باقيًا لمدة تزيد عن ٥١٠٠ عام .


وتقل عن ٧٫٨ ملايين عامًا، وهو ما قد نتوقعه بالنظر للأنواع الأخرى من
الثدييات. 2
يمكن تطبيق مبدأ كوبرنيكوس من أجل تحديد وقت النشوء بدلًا من طول البقاء.
افترضأن ثمة حياة معقدة موجودة في مكان آخر في الكون، وأن الوقت الذي استغرقته
الحياة للنشوء على كوكب الأرضليس مميزًا بأي شكل، بل هو نموذج للتوزيع الإجمالي.
لقد استغرق تطور الحياة المعقدة على الأرض ٤ مليارات عام. لذا بوسعنا أن نقول في
ثقة تبلغ نسبتها ٩٥ ٪ إن تطور الحياة المعقدة في أي مكان آخر يجب أن يستغرق ما
بين ١٠٠ مليون عام و ٨٠٠ مليار عام. هذا نطاق شاسع للغاية، لكنه يعلمنا بالكثير،
فعند النهاية العظمى، لا يمكن إلا للنجوم الأقل كتلة أن تستضيف الحياة، وستكون
المناطق الصالحة لاستضافة الحياة حولها قليلة للغاية. أما عند النهاية الصغرى، يسلم بيتر وارد
بأن تطور الحياة المعقدة لن يستغرق سوى ١٠٠ مليون عام، وهذا سيفسح
المجال لمشاركة النجوم عالية الكتلة ذات الأعمار الأقصربكثير من الشمس.


من الشائع أن تندمج فكرتا الندرة والتميز، « كوكب الأرضالنادر » عند مناقشة فرضية
لذا فلنحاول الفصل بينهما، فالكواكب المماثلة للأرض قد تكون نادرةً وقد لا تكون
كذلك، وهو ما يمكن لعمليات الرصد أن تحدده في الوقت المناسب.
أما التساؤل عما إذا كانت الكواكب المماثلة للأرضهي الكواكب الوحيدة التي يمكن
أن تشهد تطور الحياة المعقدة فهو أمر مختلف تمامًا. إن كانت أفكارنا عن الحياة المعقدة 

وكيفية تطورها شديدة التمركز حول كوكب الأرض فربما يكون كل ما فعلناه
هو نسج قصة تفسر السبب وراء ضرورة أن يكون العالم من حولنا على النحو الذي
هو عليه كي يوجد البشر. إننا لا نزال في مرحلة الصراع من أجل اكتشاف كواكب مماثلة
للأرض، أما تحديد خصائص الكواكب بما يكفي لأن نحدد إذا كانت صالحةً للحياة
أو هي مأهولة بالفعل فهو أمر يبعد عنا بعدد قليل من الأعوام، أما التحقق فعليٍّا من علامات
 وجود حياة على كواكب الأرض البعيدة فربما يبعد عنا بعدد من الأعوام يتراوح
من ١٠ إلى ٢٠ عامًا.



ديفيد جرينسبون هو أحد العلماء المتخصصين في علم الكواكب، وأيضًا هو عازف
جيتار غير متفرغ بفرقة روك. إنه عالم يعتمد على المشاركة النشطة، وهو يرضىبالتعلم
من المسبارات الفضائية، لكنه يتوق لأن يهيم على سطح العوالم الغريبة بنفسه. وهو
تحولت سلالة قطي » : يملك وجهة نظر غير مألوفة بشأن النتيجة غير العادية؛ إذ يقول
ووكي من قطط أزقة تكاد تتضور جوعًا إلى قطط منزلية محبوبة عبر سلسلة غير
محتملة من الحوادث … ثقوا بي، ففي ضوء كل الأحداث الاستثنائية التي تحتم مرور
سلالته بها على نحو ما سارت عليه تمامًا، من المرجح بشدة أنه ما من قط آخر مثل
،(« فرضية القطة النادرة ») ووكي. لا أقصد من كلامي هذا أنه لا وجود لأي قطط أخرى
3«. كل ما هنالك أنه لا توجد قطط أخرى تماثل ووكي تمامًا
مفيدًا، فنحن لا نعرف سوى أحد المسارات التي « التميز » قد لا يكون مفهوم
تطورت من خلالها الحياة لتصير ذكية. ربما يكون المسار الوحيد، لكن لا يوجد ما
يدعونا للاعتقاد بذلك. الأرجح أن تفكيرنا أو تطورنا مقيد بالبيئة التي نعيش فيها
كيف يبدو » وأنه يفتقر إلى الخيال. لقد ألف جاك كوهين وإيان ستيوارت كتابًا عنوانه
هدف في جزء منه إلى دحض مفهوم كوكب الأرضالنادر. «؟ المريخيون
مثلما تصمد كائنات البيئات القاسية في ظروف مادية متنوعة — تعد طبيعيةً وغير
استثنائية بالنسبة لها، لكنها شديدة الصعوبة لنا — من الممكن أن يكون باستطاعة
أكثر صور الحياة تطورًا أو تعقيدًا أن تصمد في ظروف غير مألوفة. ومع ذلك، فقد
يكون قضاء يوم على الشاطئ أمرًا مروعًا لمثل تلك الكائنات، أو حسبما وصفه كوهين
يتدفق في جميع أرجاء المكان إشعاع كهرومغناطيسي منهمر كالأمطار، » : وستيوارت
وغلاف جوي متآكل من الأكسجين، وتلك المادة المذيبة الشديدة المسماة بأول أكسيد
الهيدروجين





تابع القراءة ..

شاهد ايضا