الكون ونهايته وما بعد النهاية
الزيارات:

Mahmoud | 2:13:00 AM |


يرسل نيك بوستروم رسالةً مختلطةً مضبوطة بدقة. إن الاحترام الذي يحظى به
كفيلسوف تحليلي لا غبار عليه؛ لذا يأخذ جمهوره ما يقوله بجدية شديدة. يصغي
إليه الباحثون الكبار بانتباه في حين يسجل الصغار ملاحظات كثيرة، لكن الوميض
المتلألئ بعينيه والبريق الذي يعلو ابتسامته المازحة أحيانًا يوضحان أنه يدرك
سخافة موضوعه.
يقدم بوستروم ما يراه على أنه النتيجة المنطقية لاحتمالية احتواء الكون على
العديد من الكائنات التي تفوقنا بقدر هائل من حيث الذكاء والتقنية. وفي ظل
القوة الحاسوبية الضخمة المتاحة لهذه الثقافات يمكنها بسهولة محاكاة التاريخ
الكامل لعمليات التفكير لدى الجنس البشري، وذلك يعني — ثم يتوقف بوستروم
لحظة كي يضمن استحواذه على الانتباه الكامل لجمهوره — أننا نعيش بالتأكيد
في محاكاة حاسوبية.
بوستروم هو واحد من جيل جديد للفلاسفة المنشغلين بشدة بالمعلومات المذهلة
لعلم الفلك الحديث. مع ازدياد احتمالية أن تكون الحياة البيولوجية منتشرة في
أرجاء الكون، وأن يشتمل الكون على تريليونات الأماكن المحتملة للحياة، هم يسألون
عما قد تفعله الكائنات الواعية المتقدمة حقٍّا. وفي ضوء نشأة الكون من حساء
رغوي للزمكان، هم يذهبون إلى التخمين بوجود أكوان افتراضية وموازية. ولكونهم
فلاسفة، فهم يطرحون أسئلة متعمقة عن معنى الأمر برمته، وإلى أي مدى يتصف
ما نسميه بالواقع بأنه حقيقي.
منذ خمسة وعشرين قرنًا شبَّه أفلاطون البشر بساكني الكهوف الذين يتوقون
لفهم الطبيعة، لكنهم محكومون فقط بما يرونه من انعكاسات للظلال على جدار الكهف.


يحب العلماء أن يعتقدوا أنهم يتعاملون مع الحقيقة، لكن هل من الممكن
أن يكونوا مطاردين للظلال لا أكثر؟
مع أن بوستروم اكتسب شهرة سيئة وجذب الاهتمام الإعلامي بسبب فرضية
لاحظ .« الإنساني » المحاكاة التي قدمها، فمن بين أفضل أعماله وأكثرها تفصيلًا المبدأ
العلماء أن عددًا من الخصائص الطبيعية للكون — بدءًا من شدة القوى الأساسية
وحتى معدل التمدد نفسه — مضبوطة تمامًا بحيث تسمح بوجود الكربون والماء
والنجوم والحياة، ولو أن هذه الخصائص مختلفة بقدر طفيف، فربما ظل الكون
موجودًا لكنه لن يكون حيٍّا.
هل أعُِدَّ الكون من أجل الحياة؟ بدلًا من أن يقفز بوستروم إلى تلك النتيجة
المذهلة أخضع أفكاره الإنسانية للصرامة المنطقية والرسمية المميزة له. توصل
بوستروم إلى أننا واقعون تحت تأثير مبدأ الاختيار الذاتي؛ لذا لا بد أن نكون حذرين
من نسب أهمية خاصة لسمات الكون الضرورية لوجودنا، ولو أمكن للكون أن

يتحدث فقد يخاطب البشر قائلًا: لا تمنحوا أنفسكم مثل هذه الأهمية.



(العيشفي الكون المتعدد) 

(1-1) الضبط الدقيق


يهرع إليك عالم فيزياء بحماسة شديدة، بعدها يتوقف ليلتقط أنفاسه ثم ينطق بكلمات
مبعثرة؛ يقول إنه من المذهل لو أن القوة الشديدة التي تمسك بأنوية الذرات كانت أقوى
قليلًا؛ فستحول النجوم آنذاك كل الهيدروجين الموجود بداخلها بسرعة إلى هيليوم وصولًا
إلى الحديد، ولو كانت أضعف قليلًا فلن تتشكل أي نوى معقدة أو كربون، ولو كانت
القوة النووية الضعيفة أقوى قليلًا فقد تتحلل النيوترونات بسرعة شديدة بما يمنع
النجوم من تكوين العناصرالثقيلة، أما لو كانت أضعف قليلًا فقد يجري استهلاك كل
الهيدروجين.
يتوقف عالم الفيزياء برهة كي يلتقط أنفاسه فحسب وأنت تحاول أن تبتعد عنه
تدريجيٍّا بلطف، لكنه لم يفرغ من حديثه بعد. لو كانت القوة الكهرومغناطيسية مختلفة

قليلًا في شدتها فلن تتشكل الجزيئات؛ من ثم ستكون العمليات والظواهر الكيميائية أمرًا مستحيلًا.


ويواصل حديثه وهو يطلب منك أن تفكر بشأن الجاذبية. إن كانت أكثر
قوة قد تعيش النجوم حيوات سريعة مستغرقةً ملايين الأعوام، لا مليارات، وإن كانت
أضعف فلن تشكل النجوم العناصرالثقيلة. ثم يمسك عالم الفيزياء ذراعك بقوة ويقول
لك بإلحاح: في جميع هذه الأحوال سيكون هناك كون له قوانين فيزيائية معقولة، لكن
لن تكون الحياة ممكنة. ويقف العالم واضعًا يديه في وسطه منتظرًا أن تبدي رد فعلك.
هل فاجأك الأمر؟ هل ينبغي أن يفاجئك؟ تقع هذه الأسئلة في صلب جدل قوي
بشأن الضبط الدقيق في مجال الفيزياء، فالفيزياء القياسية ليس بها سوى عدد قليل
من المعاملات والكثير منها ينبغي أن يكون شديد القرب من قيمه التي جرت ملاحظتها
حتى يسمح بوجود العمليات البيولوجية والكائنات أمثالنا. 
تمتد حجج الضبط الدقيق إلى علم الكونيات، فمن الناحية الفيزيائية يمكن للأكوان
المقبولة ظاهريٍّا أن تشتمل على المادة بقدر أكبر أو أقل بكثير من كوننا، لكن لو كان
لدى الكون مادة أقل بكثير كان سيتمدد بسرعة شديدة في المرحلة الأولى، حتى إنه لن
يمكن لأي نجوم أو مجرات أن تتكون من الغاز الذي يفقد حرارته. ولا شك أن الكون
منعدم البنية سيكون خاليًا من الحياة. على الجانب الآخر، لو كان لدى الكون قدر أكبر
بكثير من المادة لكان سيعاود الانهيار منذ وقت طويل دون أن تسنح الفرصة للنجوم
بأن تكون العناصرالثقيلة وأن تأوي العمليات والظواهر البيولوجية، وربما لا يمكن لأي

كون سوى كوننا الكبير طويل العمر أن يدعم المراقبين أمثالنا




يبدو الأمر مدهشًا. ليست هذه الأكوان
هي معقولة من الناحية الفيزيائية. إن مخالفة الحقائق البيولوجية عن طريق تخيل
خنازير يمكنها الطيران ليس بالأمر المفيد فكريٍّا، لأننا ينبغي أن نفكر بطريقة ملتوية
من منظور كل من التطور والبيئة كي نرى كيف يمكن للخنازير أن تطور الأجنحة
والقدرة على الطيران. إنه ليس أمرًا مستحيلًا لكنه ليس ممتعًا للغاية أيضًا. وفي الموقف
المتعلق بدراسة الكون، نحن لم نتخلص من أفكار الفيزياء الجوهرية مثل السببية أو
تحويل المادة إلى طاقة؛ كل ما هناك أننا عدلنا القوى قليلًا ووجدنا أننا حصلنا على أكوان
يستحيل فيها بصورة أساسية وجود الحياة كما نعرفها.
لكن لكي يكون الضبط الدقيق مدهشًا سيكون علينا أن نوضح أن وقوع قيم
الثوابت الفيزيائية ضمن نطاق صغير من قيمها الفعلية هو حدث غير محتمل. ثمة

افتراض بأن الكميات الفيزيائية يمكنها أن تشغل نطاقًا ضخمًا من القيم الافتراضية،


وأن احتمالية أي قيمة متساوية تقريبًا على مدار ذلك النطاق. لكن هذا الافتراض نابع
من العدم.
ليس الأمر مماثلًا تمامًا للضبط الدقيق، لكن مكاننا في الكون لا يدعم مبدأ
كوبرنيكوس أو مبدأ عدم التميز أيضًا، فنحن ندور حول نجم عادي في مجرة عادية لكن
موقفنا يبدو خاصٍّا بطرق أخرى. إن معظم كيانات الكون هي فوتونات أو جسيمات
مادة مظلمة، لكننا نتكون من بروتونات ونيوترونات. ومعظم الكون هو فضاء تام

تقريبًا لكننا نعيش في مجرة، ومعظم كتلة المجموعة الشمسية موجودة في نجم لكننا نعيش على كوكب صخري. وأخيرًا يتميز عمر الكون بأنه هائل، لكننا نعيش بعد مرور
دهور قليلة على الانفجار العظيم. هل هذا مفاجئ أيضًا؟


0 التعليقات:

Post a Comment

شاهد ايضا