شيخوخة مجرة درب التبانة
الزيارات:

Mahmoud | 5:35:00 AM |

لمجرة درب التبانة مليارات من الحكايات، وليس منها ما هو قليل الشأن كي يُغفل.
فكِّر في التالي: حكاية ذرة كربون؛ فبين مليارات النجوم والكواكب المصاحبة لها في
المجرة، تعد ذرات الكربون فريدة تمامًا.
حين تشكلت المجرة من سُحب الغاز المنتشرالدوارة، وبردت مع اتساع الفضاء
منذ الانفجار العظيم، لم يكن لذرتنا مكان وقتها. من النادر ملاحظة الكربون في
كون تملؤه المادة البدائية، ومع ذلك فقد تشكلت ذرتنا في فترة شباب مجرة درب
التبانة، حين اضطلع نجم ضخم بسلسلة من عمليات الاندماج النووي، محولًا ثلاث
نوى من الهيليوم الخامل إلى نواة كربون واحدة مليئة بالوعود.




ذلك النجم ضخم، ويلتهم المادة على نحو مفرط. تتسبب الحركة التي تموج
بها أحشاؤه في إرسال ذرتنا إلى طبقاته الخارجية الأكثر برودة، ثم يطرح النجم في
وقت لاحق من حياته أغلفة وخيوطًا من الغاز في فراغ الفضاء النجمي. تمر مليارات
السنوات، وتشعر الذرة بشدة بطيئة — لكن قوية — نحو منطقة قريبة من الفضاء
يجمع فيها سديم نجمي أولي شتات نفسه. يتشكل نجم صغير أصفر اللون منتفخ؛
تشاهد ذرتنا المشهد من مسافة آمنة. إنها مجرد سخام. وفي رقصة رقيقة للجاذبية
تندمج الذرة في تكوين صخري يبعد عن النجم بمسافة ١٠٠ مليون ميل.




بعد مليارات الأعوام من الحركة المتواصلة داخل المركز النشط للكوكب يحدث
شيء غريب للغاية؛ لفترة قصيرة للغاية — لا تزيد عن ومضة عين في دهور الكون
— تصبح ذرتنا جزءًا من التفاعلات المعقدة للغلاف الحيوي. هذه الذرة هي نحن.
تنقضي اللحظة، وتُدفَن ذرة الكربون مجددًا في صخرة وتُنقل عبر أحزمة
الصهارة في بطء عبر طبقات الكوكب، بعد ذلك تتحرر الذرة حين يقذف بها بعنف
في الهواء من خلال أحد البراكين، وبعد فترة أطول بكثير تصل ذرتنا إلى الغلاف
الجوي وتتحد مع ذرتي أكسجين، وتتسرب إلى الفضاء العميق، وتتحرر أكثر.
يفقد الزمن معناه مع انجراف ذرة الكربون بين النجوم، لكنها في النهاية تشعر
بشدة قوية مألوفة، وتدخل للمرة الثانية في عالم النجوم. هذا النجم أصغر بكثير
من ذلك الذي بث فيها الحياة، وتكون الذرة بمعزل عن التفاعلات التي تستهلك
الجسيمات القريبة، وفي النهاية لا يكون لدى النجم الكثير لإعطائه، ويستقر في
صورته المضغوطة، وتقع ذرتنا الكربونية الجريئة حبيسة المركز المنهار على ذاته.
تدخل ذرتنا في حالة من الراحة، لكن دون الشعور بأي راحة؛ إذ إنها تومض
بالحركة في الشبكية البلورية لقزم أبيض. لن تلين الجاذبية؛ فهذا هو المأوى النهائي
لكل ذرة تجد نفسها في قلب نجم ميت. ستطلق الذرة محتواها الأخير من الحرارة
في الفضاء حتى لا يتبقى لديهاشيء تعطيه سوى الظلام؛ هكذا انتقلت من السخام،
إلى ذرة نابضة بالحياة، إلى ماسة سوداء خالدة.



التقدم في العمر أمر مؤسف. نحن نتحدث عنه على نحو طيب، لكن لا يمكن لأحد أن
يسعد مع ذبول الجسد وضعفه وفقدان المخ لقدراته. ماذا عن مجرتنا؟ هل تمضيمجرة
مثلما حض « تهتاج وتهتاج ضد وفاة الضوء » درب التبانة في هدوء إلى الظلام، أم هل
ديلان توماس والده الواهن؟ أحيانًا تتبع المجرة النهج الأخير، لكنها على وجه العموم
تتبع النهج الأول. تجد مجرة درب التبانة في عقدها السادس من المنظور الشكسبيري
يتحول صوت المرء الذكوري » وتخبو مثلما « عالمًا واسعًا للغاية للجسد النحيل الذابل »
.« القوي ثانية إلى الصوت الطفولي عالي الطبقة
نحن بحاجة إلى تقديم منظور جديد للزمن ونحن نتحدث عن مصير المجرة. تبلغ
المجرة من العمر الآن حوالي ١٢ مليار عام، وقد تتبَّعنا حالها في المستقبل خلال ٤
مليارات عام قادمة تمر فيها بعملية الاندماج مع مجرة المرأة المسلسلة وصولًا إلى مرحلة
النجم الزائف العرضية. ما يحدث بعدها سيمتد على مدار ١٠ تريليونات عام. وإن شُبِّهَ




هذا النطاق الزمني بفترة تمتد عامًا واحدًا، فسيكون قد انقضى من عمر الكون حتى
هذه النقطة ١٠ ساعات فحسب. إننا في سبيلنا لدخول عالم الزمن العميق.
كانت النجوم تخلِّق عناصر الحياة الأساسية — الكربون والنيتروجين والأكسجين
— وتقذف بها بقوة في الفضاء دون أنانية منها لكي تصبح جزءًا من أجيال متتالية من
النجوم والكواكب. إنها فكرة جذابة: وفاة النجم تصنع حياة جديدة. ومع مرور الزمن
تصير مجرتنا وكل المجرات الأخرى أكثر حيوية، ونأمل أن تصير أكثر ذكاءً.
للأسف تعترضالطبيعة على ذلك، فمع تقدم مجرة درب التبانة في العمر، سيوضع
حد لدورة حياة النجوم ووفاتها على نحو يتعذر تغييره، فالنجوم تتكون من الغاز
الوفير الذي احتوى الكون عليه حين كان صغير السن. والآن، بعد حوالي ١٤ مليار عام
من الانفجار العظيم، تجمع معظم الغاز المنتشر بالفعل. تلفظ النجوم المسنة جزءًا من
غازها، وتثري عملية إعادة الاستخدام تلك ذلك الغاز بالعناصر الثقيلة، لكن مع مرور
الدهور يبطئ تدفق الغاز المعاد استخدامه إلى حد هزيل، وعند نقطة ما سيتوقف تمامًا.
إن تطور النجوم أمر منافٍ للمنطق، فمن الظاهر يبدو أن النجم الكبير يجب أن
يدوم فترة أطول من النجم الصغير. في الحقيقة، العكس هو الصحيح، فالنجوم كبيرة
الحجم مبذرة؛ إذ تحرق وقودها خلال وقت قصير للغاية من وقت الكون، في حين تتصف
النجوم الصغيرة بالشح وأنها قادرة على البقاء وقتًا طويلًا للغاية مستندة إلى مخزون
صغير من الهيدروجين. 1 فالنجم الذي تزيد كتلته عشر مرات عن كتلة الشمس يدوم ٢٠
مليون عام، وهو وقت أقل مما استغرقه وجود الحيتان في المحيطات. أما النجم المماثل
للشمس في كتلته فيدوم ١٠ مليارات عام، لكن النجم الذي يقل في كتلته عن عُشر كتلة
الشمس — وهذا هو حجم أصغر كتلة غازية يمكن أن تكون نجمًا — فيمكنه أن يحول
الهيدروجين إلى هيليوم لمدة ١٠ تريليونات عام. إنه نجم مثير للشفقة؛ إذ يكون أقل
عتامة من الشمس بعشرة آلاف مرة. وحتى حين يتوقف تفاعل الاندماج النووي، يتبقى
قدر من الحرارة في ذلك الغاز؛ لذا يستغرق الأمر ١٠٠ تريليون عام كي يفقد القزم
الأحمر حرارته ويصير قزمًا أسود غير مرئي.


شكَّلت المجرات البيضاوية النجوم بفعالية شديدة في وقت مبكر من أعمارها، لذا
نفد غازها منذ وقت طويل؛ من ثم تتقدم في العمر وتصير أكثر احمرارًا على نحو
ثابت، أما في المجرات الحلزونية كمجرة درب التبانة فيعني الانخفاضالنهائي في تشكُّل
النجوم أنه لم يتبقَّ نجوم أخرى ضخمة بما يكفي كي تموت كمستعرات عظمى، وهو ما يخلف النجوم


النيوترونية المظلمة والثقوب السوداء فحسب. لم تعد التغيرات النجمية
العنيفة تغذي الفضاء بالمادة اللازمة لتكوين نجوم جديدة. الأقزام الحمراء هي آخر ما
يتبقى من النجوم. وطيلة تريليونات الأعوام تكد هذه النجوم من أجل بث الضوء من
تفاعلات نووية ضعيفة (بالنسبة للنجم تعد صفة ضعيف صفة نسبية؛ فدرجة حرارة
سطح النجم القزم الأحمر تبلغ مئات الدرجات، في حين تبلغ درجة حرارة جزئه الداخلي
ملايين الدرجات). وحتى النيران المتقدة للأقزام الحمراء ستخمد في جميع أنحاء المجرة
في غضون ١٠ تريليونات عام.



يُعفى الثقب الأسود المركزي الهائل جزئيٍّا من هذا الجمود النجمي، فمع استنفاد
الغاز لا يمكن للثقب أن يتغذى على الطعام الذي يجعله يضيء بسطوع. لقد انتهت
مرحلة النجم الزائف، لكن لا يزال بمقدور هذا المصدر الهائل للجاذبية أن يجذب النجوم
التي تحملها مداراتها لمسافة قريبة منه (لن يكون أحفادنا في خطر؛ فالثقب الأسود
الموجود في مركز المجرة بعيد للغاية بما يمنعه من التأثير على المجموعة الشمسية).
يواصل الثقب الأسود التغذي على النجوم في صورة وجبات خفيفة، وفي كل مرة يدخل
فيها نجم إلى أفق الحدث يرى الراصد من بعد وميضًا من الضوء.



هذه هي نهاية عصر النجوم. الأمر يبدو كما لو أن مجرة درب التبانة مثبت
بها مفتاح إعتام كبير، والطبيعة تقلل طاقتها ببطء شديد. ولأن مجرتنا ليست مميزة،
فالشيء نفسه سوف يحدث في كل مجرة من المجرات الأخرى في الكون البالغ عددها ٥٠
مليار مجرة. والاستثناءات الوحيدة لقاعدة الضوء المتناقص ستكون المجرات الموجودة
في عناقيد غنية، حيث يمكن لعمليات الاندماج وحركة الجاذبية أن يبقيا على عملية
تشكل النجوم مستمرة فترة أطول قليلًا. وفي النهاية، حتى العناقيد المجرية ستتحول إلى
مجرات فائقة شاسعة تحوي نجومًا ميتة وأخرى تحتضر.




لندخل عصرالجثث النجمية. لقد فقد الكون ضياءه. يكشف مخزون البقايا المتوقعة عن
وجود أعداد متساوية تقريبًا من الأقزام البنية والأقزام البيضاء وعدد ضئيل من النجوم
النيوترونية والثقوب السوداء لا يشكل سوى أعشار قليلة من الواحد بالمائة. 2
بقايا النجوم الضخمة مظلمة. لا شيء يفر من أفق حدث الثقوب السوداء، والنجم
النيوتروني يماثل نواة ذرية تحوي ما يعادل ٥٧١٠ جسيم، وتتكدس نيوتروناته فيه





بإحكام مثلما يوضع البيض في صندوق. تحوي نسبة صغيرة من النجوم النيوترونية
بقعًا ساخنة على أسطحها تولد حزمًا من الأشعة الكهرومغناطيسية. تدور النجوم حول
نفسها، وحين يمر الشعاع المنبعث منها بمسار الأرض نرى نجمًا نابضًا. ولأنه ليس
معلومًا بالضبط كيف تولد صور انعدام التناسق في قشرة النجم النيوتروني موجات
الأشعة الكهرومغناطيسية، لا نستطيع التنبؤ بالوقت الذي ستعيشه النجوم النابضة.
كانت نصف الجثث في وقت من الأوقات نجومًا ضخمة بما يكفي لدمج الهيدروجين
إلى الهيليوم، كالشمس. تعاني هذه النجوم سلسلة من التشنجات والانقباضات، وتنهي
حياتها كأقزام بيضاء. والأقزام البيضاء هي جمرات نجمية لكن مادتها الغنية بالكربون
أكثر كثافة بكثير من الرماد؛ فهي بلورية تشبه شكلًا غريبًا من الماس. في البداية تكون
الجمرات شديدة السخونة لكنها تبرد بسرعة. يحتاج القزم الأبيض إلى ١٠٠ مليون عام
فحسب كي يبرد من درجة حرارة ١٠٠ ألف درجة مئوية ( ١٨٠ ألف درجة فهرنهايت)
إلى ٢٠ ألف درجة مئوية ( ٣٦ ألف درجة فهرنهايت)، لكنه بعد ذلك يستغرق ٨٠٠
مليون عام لكي يبرد إلى ١٠ آلاف درجة مئوية ( ١٨ ألف درجة فهرنهايت). بعد ذلك
يستغرق ٥ مليارات عام كي يصل إلى درجة حرارة سطح الشمس التي تبلغ ٥٥٠٠
درجة مئوية ( ٩٩٠٠ درجة فهرنهايت). بعد ذلك يبهت القزم الأبيضباستمرار ويتدرج
طيفه الضوئي من الأصفر إلى البرتقالي ثم إلى الوردي، ليصطبغ في النهاية بلون أحمر
داكن باهت. بعد تريليونات الأعوام يصير غير مرئي، ولا يتوهج إلا بأطوال موجية غير

لا تمر الجثث الأخرى بطور من السخونة أبدًا،
 فسحب الغاز التي تنهار لتشكلأجرامًا تقل في كتلتها عن عُشر كتلة الشمس لا يمكنها أن تضيء عتمة الليل. لا تستشعر
هذه النجوم عظمة تحول العناصرأبدًا، فهذه النجوم غير المكتملة تبعث ضوءًا باهتًا غير
والأقزام البنية هي .« الأقزام البنية » مميز يميل إلى اللون الأحمر؛ من ثم أطلق عليها اسم
شكل أكبر حجمًا من الكواكب العملاقة، والكواكب العملاقة كالمشتري وزحل تتوهج هي
الأخرى بالأشعة تحت الحمراء على نحو باهت. ومع مرور الدهور، سوف تلفظ الأقزام
البنية حرارتها الفاترة في الفراغ البارد للفضاء، وسوف تتلاشى ببطء لتتحول إلى اللون

حتى مع تقدم النجوم في العمر وتناقصضوئها تظل الجاذبية هي محرك نشاطها.
حين كانت النجوم صغيرة كانت الجاذبية أشبه بالكيميائي المتحمس المنهمك في تشكيل العناصروملء بيانات الجدول
 الدوري والعمل على توهج السماء بالنفايات المعقدة، أما
حين تتقدم النجوم في العمر فالجاذبية تتحول إلى ملزمة تضغط الغاز برفق، وتحتال
على العيش بقذف الطاقة في الفضاء. لا تزال مجرة درب التبانة خشبة مسرح مهيبة،
لكن لم تعد تشهد مولد النجوم، والنجوم الباقية ضعيفة خاملة.




0 التعليقات:

Post a Comment

شاهد ايضا